منزلة الإخبات
سكينة ...طمأنينة ...يقين
اذا وجد الثلاثة وجد الإخبات
ومن منازل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) منزلة الإخبات .
قال الله تعالى : ( وبشر المخبتين ) ثم كشف عن معناهم فقال :
( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )
وقال : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) .
و " الخبت " في أصل اللغة : المكان المنخفض من الأرض .
وبه فسر ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة لفظ المخبتين وقالا : هم المتواضعون .
وقالمجاهد : المخبت : المطمئن إلى الله عز وجل .
قال : والخبت : المكان المطمئن من الأرض .
وقال الأخفش : [ ص: 6 ] الخاشعون .
وقال إبراهيم النخعي : المصلون المخلصون .
وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم .
وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون ، وإذا ظلموا لم ينتصروا .
وهذه الأقوال تدور على معنيين : التواضع ، والسكون إلى الله عز وجل ،
ولذلك عدي ب " إلى " تضمينا لمعنى الطمأنينة ، والإنابة والسكون إلى الله .
قال صاحب " المنازل " :
" هو من أول مقامات الطمأنينة " .
كالسكينة ، واليقين ، والثقة بالله ونحوها . فالإخبات مقدمتها ومبدؤها .
قال : وهو ورود المأمن من الرجوع والتردد .
لما كان الإخبات أول مقام يتخلص فيه السالك من التردد -
الذي هو نوع غفلة وإعراض - والسالك مسافر إلى ربه ، سائر إليه على مدى أنفاسه .
لا ينتهي مسيره إليه ما دام نفسه يصحبه -
شبه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يرده المسافر على ظمأ وحاجة في أول مناهله .
فيرويه مورده ،
ويزيل عنه خواطر تردده في إتمام سفره ،
أو رجوعه إلى وطنه لمشقة السفر .
فإذا ورد ذلك الماء زال عنه التردد وخاطر الرجوع .
كذلك [ ص: 77 ]السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلص من التردد والرجوع ،
ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره ، وجد في السير .
قال : وهو على ثلاث درجات .
الدرجة الأولى : أن تستغرق العصمة الشهوة وتستدرك الإرادة الغفلة . ويستهوي الطلب السلوة .
المريد السالك : تعرض له غفلة عن مراده ، تضعف إرادته . وشهوة تعارض إرادته فتصده عن مراده . ورجوع عن مراده ، وسلوة عنه .
فهذه الدرجة من الإخبات تحميه عن هذه الثلاثة . فتستغرق عصمته شهوته .
والعصمة هي الحماية والحفظ . والشهوة الميل إلى مطالب النفس . والاستغراق للشيء الاحتواء عليه والإحاطة به .
يقول : تغلب عصمته شهوته وتقهرها ، وتستوفي جميع أجزائها . فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة فذلك دليل على إخباته ودخوله في مقام الطمأنينة ، ونزوله أول منازلها ، وخلاصه في هذا المنزل من تردد الخواطر بين الإقبال والإدبار ، والرجوع والعزم ، إلى الاستقامة والعزم الجازم ، والجد في السير . وذلك علامة السكينة .
وتستدرك إرادته غفلته .
والإرادة عند القوم هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله .
والمريد هو الذي خرج من وطن طبعه ونفسه .
وأخذ في السفر إلى الله ، والدار الآخرة ،
فإذا نزل في منزل الإخبات أحاطت إرادته بغفلته .
فاستدركها ، واستدرك بها فارطها .
وأما استهواء طلبه لسلوته فهو قهر محبته لسلوته ، وغلبتها له .
بحيث تهوي السلوة وتسقط ، كالذي يهوي في بئر .
وهذا علامة المحبة الصادقة أن تقهر فيه وارد السلوة ، وتدفنها في هوة لا تحيا بعدها أبدا .
فالحاصل : أن عصمته وحمايته تقهر شهوته .
وإرادته تقهر غفلته . ومحبته تقهر سلوته .
قال : الدرجة الثانية : أن لا ينقض إرادته سبب . ولا يوحش قلبه عارض . ولا يقطع عليه الطريق فتنة .
[ ص: 8 ] هذه ثلاثة أمور أخرى . تعرض لصادق الإرادة : سبب يعرض له ينقض عزمه وإرادته .
ووحشة تعرض له في طريق طلبه ، ولا سيما عند تفرده . وفتنة تخرج عليه ، تقصد قطع الطريق عليه .
فإذا تمكن من منزل الإخبات اندفعت عنه هذه الآفات ؛ لأن إرادته إذا قويت ، وجد به المسير لم ينقضها سبب من أسباب التخلف .
والنقض هو الرجوع عن إرادته ، والعدول عن جهة سفره .
ولا يوحش أنسه بالله في طريقه عارض من العوارض الشواغل للقلب ، والجواذب له عمن هو متوجه إليه .
والعارض هو المخالف . كالشيء الذي يعترضك في طريقك .
فيجيء في عرضها .
ومن أقوى هذه العوارض عارض وحشة التفرد .
فلا يلتفت إليه ، كما قال بعض الصادقين : انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطلب .
وقال آخر : لا تستوحش في طريقك من قلة السالكين . ولا تغتر بكثرة الهالكين .
وأما الفتنة التي تقطع عليه الطريق فهي الواردات التي ترد على القلوب ، تمنعها من مطالعة الحق وقصده .
فإذا تمكن من منزل الإخبات وصحة الإرادة والطلب لم يطمع فيه عارض الفتنة .
وهذه العزائم لا تصح إلا لمن أشرق على قلبه أنوار آثار الأسماء والصفات .
وتجلت عليه معانيها . وكافح قلبه حقيقة اليقين بها .
وقد قيل : من أخذ العلم من عين العلم ثبت .
ومن أخذه من جريانه أخذته أمواج الشبه . ومالت به العبارات ، واختلفت عليه الأقوال .
قال : الدرجة الثالثة : أن يستوي عنده المدح والذم ،
وتدوم لائمته لنفسه . ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته .
اعلم أنه متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكن فيها ارتفعت همته ،
وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم . فلا يفرح بمدح الناس .
ولا يحزن لذمهم .
هذا وصف من خرج عن حظ نفسه ، وتأهل للفناء في عبودية ربه .
وصار قلبه مطرحا لأشعة أنوار الأسماء والصفات .
وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه .
[ ص: 9 ] والوقوف عند مدح الناس وذمهم علامة انقطاع القلب ،
وخلوه من الله ، وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته ، ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه .
وأما قوله : وأن تدوم لائمته لنفسه فهو أن صاحب هذا المنزل لا يرضى عن نفسه ،
وهو مبغض لها متمن لمفارقتها .
والمراد بالنفس ، عند القوم : ما كان معلوما من أوصاف العبد ، مذموما من أخلاقه وأفعاله ، سواء كان ذلك كسبيا ، أو خلقيا . فهو شديد اللائمة لها .
وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى : ( ولا أقسم بالنفس اللوامة )
قال سعيد بن جبير وعكرمة : تلوم على الخير والشر . ولا تصبر على السراء . ولا على الضراء .
وقال قتادة : اللوامة هي الفاجرة .
وقال مجاهد : تندم على ما فات ، وتقول : لو فعلت ؟ ولو لم أفعل ؟ .
وقال الفراء : ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا قالت : هلا زدت ؟
وإن عملت شرا قالت : ليتني لم أفعل .
وقال الحسن : هي النفس المؤمنة .
إن المؤمن - والله - ما تراه إلا يلوم نفسه :
ما أردت بكلمة كذا ؟
ما أردت بأكلة كذا ؟ ما أردت بكذا ؟
ما أردت بكذا ؟ وإن الفاجر يمضي قدما قدما ، ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها .
وقال مقاتل : هي النفس الكافرة ، تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا .
والقصد : أن من بذل نفسه لله بصدق كره بقاءه معها ؛
لأنه يريد أن يتقبلها من بذلت له . ولأنه قد قربها له قربانا .
ومن قرب قربانا فتقبل منه ليس كمن رد عليه قربانه . فبقاء نفسه معه دليل على أنه لم يتقبل قربانه .
وأيضا فإنه من قواعد القوم المجمع عليها بينهم ، التي اتفقت كلمة أولهم وآخرهم ،
ومحقهم ومبطلهم عليها أن النفس حجاب بين العبد وبين الله ،
وأنه لا يصل إلى الله حتى يقطع هذا الحجاب .
كما قال أبو يزيد : رأيت رب العزة في المنام . فقلت : يا رب ، كيف الطريق إليك ؟
فقال : خل نفسك وتعال .
[ ص: 10 ] فالنفس جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله عز وجل .
وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل .
فلابد أن ينتهي إليه ،
ولكن منهم من هو شاق عليه ومنهم من هو سهل عليه .
وإنه ليسير على من يسره الله عليه .
وفي ذلك الجبل أودية وشعوب ، وعقبات ووهود ، وشوك وعوسج ، وعليق وشبرق ،
ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين .
ولا سيما أهل الليل المدلجين .
فإذا لم يكن معهم عدد الإيمان ،
ومصابيح اليقين تتقد بزيت الإخبات ،
وإلا تعلقت بهم تلك الموانع . وتشبثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السير .
فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته .
والشيطان على قلة ذلك الجبل يحذر الناس من صعوده وارتفاعه ،
ويخوفهم منه .
فيتفق مشقة الصعود وقعود ذلك المخوف على قلته ،
وضعف عزيمة السائر ونيته .
فيتولد من ذلك الانقطاع والرجوع . والمعصوم من عصمه الله .
وكلما رقى السائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع ،
وتحذيره وتخويفه ،
فإذا قطعه وبلغ قلته : انقلبت تلك المخاوف كلهن أمانا .
وحينئذ يسهل السير ، وتزول عنه عوارض الطريق ، ومشقة عقباتها ،
ويرى طريقا واسعا آمنا .
يفضي به إلى المنازل والمناهل . وعليه الأعلام .
وفيه الإقامات ، قد أعدت لركب الرحمن .
فبين العبد وبين السعادة والفلاح
قوة عزيمة ، وصبر ساعة ، وشجاعة نفس ،
وثبات قلب . والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء . والله ذو الفضل العظيم .
وقوله : ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته .
يعني أنه - وإن كان أعلى ممن هو دونه من الناقصين عن درجته - إلا أنه لاشتغاله بالله وامتلاء قلبه من محبته ومعرفته ، والإقبال عليه يشتغل به عن ملاحظة حال غيره ، وعن شهود النسبة بين حاله وأحوال الناس . ويرى اشتغاله بذلك والتفاته إليه نزولا عن مقامه ، وانحطاطا عن درجته ، ورجوعا على عقبيه . فإن هجم عليه ذلك - بغير استدعاء واختيار - فليداوه بشهود المنة ، وخوف المكر ، وعدم علمه بالعاقبة التي يوافى عليها . والله المستعان .
اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home