إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ
يقسم الله سبحانه وتعالى فى سورة
التكوير
على طبيعة الوحي،
وصفة الرسول الذي يحمله،
والرسول الذي يتلقاه،
وموقف الناس حياله وفق مشيئة الله
" قال تعالى
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
وَاللَّيْلِ
إِذَا عَسْعَسَ (17)
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
إِنَّهُ
لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ
بِضَنِينٍ (24)
وَمَا هُوَ
بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
إِنْ هُوَ
إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
والخنس الجوار الكنس
..
هي الكواكب التي تخنس
أي
ترجع في دوراتها الفلكية وتجري وتختفي.
والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء
وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى.
فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب،
وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها
.
في اختفائها وفي ظهورها.
في تواريها وفي سفورها.
في جريها وفي عودتها
يقابله إيحاء بالجمال
في شكل اللفظ وجرسه
. " ..

" والليل إذا عسعس " .. أي إذا أظلم
.
ولكن اللفظ فيه تلك الإيحاءات كذلك. فلفظ
عسعس مؤلف من مقطعين: عس. عس
.
وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل،
وهو يعس في الظلام
بيده أو برجله لا يرى!
وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع.
ومثله: " والصبح إذا تنفس "
.. بل هو أظهر حيوية،
وأشد إيحاء. والصبح
حي يتنفس.
أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي
.
وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها
التعبيرية
لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير عن الصبح
.
ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس !
ثم
يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح.
وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير
يدرك أن قوله تعالى: " فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس،
والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس "
..
ثروة شعورية وتعبيرية. فوق
ما يشير إليه من حقائق
كونية. ثروة
جميلة بديعة رشيقة؛
تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر،
وهي تستقبل هذه الظواهر
الكونية بالحس الشاعر.
يلوح بهذه المشاعر الكونية التي يخلع عليها الحياة؛
ويصل روح الإنسان بأرواحها من خلال
التعبير الحي الجميل عنها؛
لتسكب
في روح الإنسان أسرارها،
وتشي لها بالقدرة التي وراءها، وتحدثها
بصدق الحقيقة الإيمانية التي تدعى إليها
..
ثم يذكر هذه الحقيقة في أنسب الحالات لذكرها واستقبالها:
"
إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين. مطاع ثم أمين "
..
إن هذا القرآن، وهذا الوصف لليوم الآخر .. لقول رسول كريم
..
وهو جبريل الذي حمل هذا
القول وأبلغه .. فصار قوله باعتبار تبليغه.
ويذكر صفة هذا الرسول،
الذي اختير لحمل هذا القول وإبلاغه .. " كريم "
عند ربه. فربه
هوالذي يقول .. " ذي قوة
"
.. مما يوحي بأن هذا القول يحتاج في حمله
إلى قوة. " عند ذي العرش
مكين "
.. في مقامه ومكانته .. وعند من؟
عند ذي العرش العلي الأعلى
.
" مطاع ثم "
هناك في الملأ
الأعلى. " أمين "
.. على ما يحمل وما يبلغ ..
وهذه الصفات في مجموعها توحي بكرامة هذا القول
وضخامته وسموه كذلك وارتفاعه. كما
توحي بعناية الله سبحانه بالإنسان،
حتى ليختار هذا الرسول صاحب هذه الصفة
ليحمل الرسالة إليه،
ويبلغ الوحي إلى النبي المختار منه
.. وهي عناية تخجل هذا الكائن،
الذي
لا يساوي في ملك الله شيئا،
لولا أن الله - سبحانه - يتفضل عليه فيكرمه هذه الكرامة!
|
| |
فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه،
فأما
الرسول الذي حمله إليكم فهو " صاحبكم "
..
عرفتموه حق المعرفة عمرا طويلا.
فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون
.
وتذهبون في أمره المذاهب،
وهو "
صاحبكم " الذي
لا تجهلون
.
وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن
يقين:
"
وما صاحبكم بمجنون. ولقد رآه بالأفق المبين
.
وما هو على الغيب بضنين. وما هو بقول
شيطان رجيم. فأين تذهبون؟
إن هو إلا ذكر للعالمين "
..
ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة،
ويعرفون رجاحة عقله، وصدقه وأمانته
وتثبته، قالوا عنه: إنه
مجنون
.
وإن شيطانا يتنزل عليه بما يقول
.
قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما
وردت بذلك الأخبار
وقاله بعضهم عجبا ودهشة من هذا القول
الذي لا يقوله البشر فيما يألفون
ويعهدون .
وتمشيا مع ظنهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالقول الفريد
.
وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد
وأن الشيطان يمس بعض الناس
فينطق على لسانهم بالقول الغريب!
وتركوا التعليل الوحيد الصادق،
وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين.
فجاء القرآن يحدثهم في هذا المقطع من السورة عن جمال الكون البديع،
وحيوية مشاهده الجميلة.
ليوحي إلى قلوبهم بأن القرآن صادر عن تلك القدرة المبدعة،
التي أنشأت ذلك الجمال.
على غير مثال.
وليحدثهم
بصفة الرسول الذي حمله،
والرسول الذي بلغه
. وهو
صاحبهم الذي عرفوه
.
غير مجنون.
والذي
رأى الرسول الكريم - جبريل - حق الرؤية،
بالأفق المبين الواضح الذي تتم فيه الرؤية عن يقين.
وأنه ع لمؤتمن على الغيب،
لا تظن به الظنون في خبره الذي يرويه عنه،
فما عرفوا عنه إلا الصدق واليقين
.
" وما هو بقول شيطان رجيم "
فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم
.
ويسألهم مستنكرا: " فأين تذهبون؟
"
.. أين تذهبون في حكمكم وقولكم؟
أو أين تذهبون منصرفين عن
الحق وهو يواجهكم أينما ذهبتم!
إن هو إلا ذكر للعالمين ذكر يذكرهم بحقيقة وجودهم،
وحقيقة
نشأتهم، وحقيقة الكون من حولهم .. " للعالمين " ..
فهو دعوة عالمية من أول مرحلة.
والدعوة في مكة محاصرة مطاردة. كما
تشهد مثل هذه النصوص المكية ..
| | |
.
وأنهم إذن مسؤولون عن أنفسهم،
وقد منحهم الله هذا التيسير:
"
لمن شاء منكم أن يستقيم " ..
أن يستقيم على هدى الله، في الطريق إليه،
بعد هذا البيان،
الذي يكشف كل شبهة،
وينفي كل ريبة،
ويسقط كل عذر
.
ويوحي إلى القلب السليم بالطريق المستقيم.
فمن لم يستقم فهو مسؤول عن انحرافه.
فقد كان أمامه أن يستقيم.
والواقع أن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق من القوة والعمق والثقل بحيث يصعب على القلب التفلت من ضغطها إلا بجهد متعمد
.
وبخاصة حين يسمع التوجيه إليها بأسلوب
القرآن الموحي الموقظ.
وما ينحرف عن طريق الله - بعد ذلك
-
إلا من يريد أن ينحرف.
في غير عذر ولا مبرر!
|
| |
فإذا سجل عليهم إمكان الهدى، ويسر الاستقامة،
عاد لتقرير الحقيقة الكبرى وراء مشيئتهم.
حقيقة أن المشيئة الفاعلة من وراء كل شيء هي مشيئة الله سبحانه ..
"
وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين "
..
وذلك كي لا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى،
التي يرجع إليها كل أمر.
فإعطاؤهم حرية الاختيار، ويسر الاهتداء،
إنما يرجع إلى تلك المشيئة.
المحيطة بكل شيء كان أو يكون!
وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق،
يراد
بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة:
حقيقة أن كل شيء في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله
وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار
هو طرف من مشيئته ككل تقدير آخر وتدبير.
شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة المطلقة لما يؤمرون،
والقدرة
الكاملة على أداء ما يؤمرون. فهو
طرف من مشيئته
كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان.
ولا بد من إقرار هذه الحقيقة في تصور المؤمنين،
ليدركوا ما هو الحق لذاته.
وليلتجئوا إلى المشيئة
الكبرى يطلبون عندها العون والتوفيق،
ويرتبطون بها في كل ما يأخذون وما يدعون في الطريق!
في ظلال القرآن
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home