كلا ! إنه تذكرة
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله
قال تعالى في سورة المدثر
"كلا والقمر. والليل إذ أدبر. والصبح إذا أسفر
إنها لأحدى الكبر. نذيرا للبشر " ..
مشاهد القمر، والليل حين يدبر،
والصبح حين يسفر ..
مشاهد موحية بذاتها،
تقول للقلب البشري
أشياء كثيرة؛
وتهمس في أعماقه بأسرار كثيرة؛
وتستجيش في أغواره مشاعر كثيرة
.
والقرآن
يلمس بهذه الإشارة السريعة
مكامن هذه المشاعر والأسرار في القلوب التي يخاطبها،
على خبرة بمداخلها ودروبها!
وقلَّ أن يستيقظ قلب
لمشهد القمر حين يطلع وحين يسري وحين يغيب
..
ثم لا يعي عن القمر شيئا يهمس له به من أسرار هذا الوجود!
وإن وقفة في نور القمر أحيانا لتغسل القلب
كما لو كان يستحم بالنور!
وقلَّ أن يستيقظ قلب لمشهد الليل عند إدباره،
في تلك الهدأة التي تسبق الشروق، وعندما يبدأ
هذا الوجود كله يفتح عينيه ويفيق
..
ثم لا ينطبع فيه أثر من هذا المشهد
وتدب في أعماقه خطرات رفافة وشفافة.
وقلَّ أن يستيقظ قلب لمشهد الصبح عند إسفاره وظهوره،
ثم لا تنبض فيه نابضة من إشراق
وتفتح وانتقال شعوري من حال إلى حال،
يجعله أشد ما يكون صلاحية لاستقبال النور الذي يشرق في
الضمائر مع النور الذي يشرق في النواظر.
والله الذي خلق القلب البشري
يعلم أن هذه المشاهد بذاتها تصنع فيه الأعاجيب في بعض الأحايين،
وكأنها تخلقه من جديد.
ووراء هذه الانبعاثات والإشراقات والاستقبالات ما في القمر،
وما في الليل، وما في الصبح من حقيقة عجيبة هائلة
يوجه القرآن إليها المدارك، وينبه إليها العقول
ومن دلالة على القدرة المبدعة والحكمة المدبرة،
والتنسيق الإلهي لهذا الكون،
بتلك الدقة التي يحير تصورها العقول.
ويقسم الله سبحانه بهذه الحقائق الكونية الكبيرة
لتنبيه الغافلين لأقدارها العظيمة، ودلالاتها المثيرة.
يقسم على أن " سقر " أو الجنود
التي عليها،
أو الآخرة وما فيها، هي إحدى الأمور الكبيرة
العجيبة المنذرة للبشر بما وراءهم من خطر:
" إنها لأحدى الكبر، نذيرا للبشر " ..
والقسم ذاته، ومحتوياته، والمقسم عليه بهذه الصورة
..
كلها مطارق تطرق قلوب البشر بعنف
وشدة، وتتسق مع النقر في الناقور،
وما يتركه من صدى في الشعور.
ومع مطلع السورة بالنداء الموقظ:
"
يا أيها المدثر " والأمر بالنذارة
:
" قم فأنذر "
.. فالجو كله نقر وطرق وخطر! !
|
| |
وفي ظل هذه الإيقاعات المثيرة الخطيرة
يعلن تبعة كل نفس لذاتها
وعلى ذاتها؛ ويدع للنفوس أن
تختار طريقها ومصيرها؛
ويعلن
لها أنها مأخوذة بما تكسبه باختيارها،
مرهونة بأعمالها وأوزارها:
"
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر.
كل نفس بما كسبت رهينة "
..
فكل فرد يحمل هم نفسه وتبعتها،
ويضع نفسه حيث شاء أن يضعها،
يتقدم بها أو يتأخر،
ويكرمها أو يهينها.
فهي
رهينة بما تكسب،
مقيدة بما
تفعل

وقد بين الله للنفوس طريقة لتسلك إليه على بصيرة،
وهو إعلان في مواجهة المشاهد الكونية الموحية،
ومشاهد سقر التي لا تبقي ولا تذر .. له وقعه
وله قيمته!
وعلى مشهد النفوس الرهينة بما كسبت،
المقيدة بما فعلت، يعلن إطلاق أصحاب اليمين من
العقال، وإرسالهم من القيد،
وتخويلهم حق سؤال المجرمين عما انتهى بهم إلى هذا المصير:
"
إلا أصحاب اليمين،
في جنات يتساءلون عن المجرمين:
ما سلككم في سقر؟
قالوا: لم نك من المصلين،
ولم نك نطعم المسكين،
وكنا نخوض مع الخائضين،
وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين
" فما تنفعهم شفاعة الشافعين "
..
فقد قضي الأمر، وحق القول، وتقرر المصير،
الذي يليق بالمجرمين المعترفين
!
وليس هنالك من يشفع للمجرمين أصلا.
وحتى على فرض ما لا وجود له فما تنفعهم شفاعة الشافعين!
|
| |
وأمام هذا الموقف المهين الميئوس منه في الآخرة،
يردهم إلى موقفهم في الفرصة المتاحة لهم في
الأرض قبل مواجهة ذلك الموقف؛
وهم يصدون عنها ويعرضون،
بل يفرون
من الهدى والخير
ووسائل النجاة المعروضة عليهم
فيها،

ويرسم لهم صورة مضحكة تثير السخرية والعجب
من أمرهم
الغريب:
"
فما لهم عن التذكرة معرضين؟
كأنهم حمر مستنفرة،
فرت من قسورة؟ " ..
ومشهد حمر الوحش وهي مستنفره تفر في كل اتجاه،
حين تسمع زئير الأسد وتخشاه .. مشهد
يعرفه العرب.
وهو مشهد عنيف الحركة.
مضحك أشد الضحك حين يشبه به الآدميون! حين
يخافون!
فكيف إذا كانوا إنما ينفرون هذا النفار
الذي يتحولون به من آدميين إلى حمر،
لا لأنهم خائفون مهددون
بل لأن مذكرا يذكرهم بربهم
وبمصيرهم،
ويمهد لهم الفرصة ليتقوا ذلك الموقف الزري المهين،
وذلك المصير العصيب الأليم؟ !
إنها الريشة المبدعة ترسم هذا المشهد
وتسجله في صلب الكون،
تتملاه النفوس، فتخجل
وتستنكف أن تكون فيه،
ويروح النافرون المعرضون أنفسهم يتوارون من الخجل،
ويطامنون من الإعراض والنفار،
مخافة هذا التصوير الحي العنيف!
|
|
تلك هيئتهم الخارجية. "
حمر مستنفرة، فرت من قسورة
"
ثم لا يدعهم حتى يرسم نفوسهم
من الداخل، وما يعتلج فيها من المشاعر:
"
بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة " ..
فهو الحسد للنبي ع أن يختاره الله ويوحي إليه؛
والرغبة الملحة أن ينال كل منهم هذه المترلة،
وأن يؤتى صحفا تنشر على الناس وتعلن
..
ولا بد أن الإشارة هنا كانت بصدد الكبراء الذين شق
عليهم أن يتخطاهم الوحي إلى محمد بن عبد الله،
فقالوا: " لولا نزل هذا القرآن على رجل من
القريتين عظيم؟
"
.. ولقد علم الله أين يضع رسالته
واختار لها ذلك الإنسان الكريم الكبير العظيم.
فكان الحنق الذي يغلي في الصدور،
والذي يكشف عنه القرآن، وهو يعلل ذلك الشماس والنفار!
ثم يستمر في رسم صورة النفوس من داخلها،
فيضرب عما ذكره من ذلك الطمع والحسد،
ويذكر سببا آخر للإعراض والجحود
.
وهو يردع في نفوسهم ذلك الطمع الذي لا يستند إلى سبب من
صلاح ولا من استعداد لتلقي وحي الله وفضله:
"
كلا!
بل لا يخافون الآخرة " ..
وعدم خوفهم من الآخرة هو الذي ينأى بهم عن التذكرة،
وينفرهم من الدعوة هذه النفرة
ولو استشعرت قلوبهم
حقيقة الآخرة
لكان لهم شأن غير هذا الشأن المريب!
ثم يردعهم مرة أخرى، وهو يلقي إليهم بالكلمة الآخيرة،
ويدعهم لما يختارون لأنفسهم من
طريق ومصير:
"
كلا! إنه تذكرة.
فمن شاء ذكره "
..
إنه، هذا القرآن الذي يعرضون عن سماعه،
وينفرون كالحمر، وهم يضمرون في أنفسهم الحسد
لمحمد، والاستهتار بالآخرة
..
إنه تذكرة تنبه وتذكر.
فمن شاء فليذكر
.
ومن لم يشأ فهو وشأنه،
وهو ومصيره، وهو وما يختار من جنة وكرامة،
أو من سقر ومهانة ..
في ظلال القرآن
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home