إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ
قال تعالى :
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ
إن النصوص القرآنية الثابتة،
تواجه
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ
كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ
(19)) [سورة الرعد] إن النصوص القرآنية الثابتة،
تواجه
تلك الكينونة البشرية الثابتة
ولأنها من صنع المصدر.
الذي صنع الإنسان،
فإنها تواجه حياته بظروفها المتغيرة،
وأطوارها المتجددة، بنفس المرونة التي يواجهها
" الإنسان " ظروف الحياة المتغيرة، وأطوارها المتجددة،
وهو محافظ على مقوماته الأساسية
.. مقومات الإنسان ..
وفي " الإنسان "
هذا الاستعداد، وهذه المرونة،
وإلا ما استطاع أن يواجه ظروف الحياة
وأطوارها، وهي ليست ثابتة من حوله.
وفي المنهج الرباني الموضوع لهذا الإنسان، ذات الخصائص،
بحكم أنه صادر من المصدر الذي صدر منه الإنسان،
ومودع خصائصه ذاتها،
ومعد للعمل معه إلى آخر الزمان.
وهكذا يستطيع ذلك المنهج،
وتستطيع هذه النصوص، أن تلتقط الفرد الإنساني،
وأن تلتقط المجموعة الإنسانية، من أي مستوى،
ومن أية درجة من درجات المرتقى الصاعد،
فينتهي به وبها إلى
القمة السامقة
.. إنه لا يرده ولا يردها أبدا إلى الوراء،
ولا يهبط به أو بها أبدا إلى درجة أسفل في
المرتقى.
كما أنه لا يضيق به ولا بها، ولا يعجز عن رفعه ورفعها،
أيا كان مكانه أو مكانها
من السفح السحيق!
المجتمع البدائي المتخلف كالمجتمع العربي في الجاهلية القديمة،
والمجتمع الصناعي المتحضر، كالمجتمع
الأوربي والأمريكي في الجاهلية الحديثة ..
كلاهما يجد في المنهج الرباني والنصوص القرآنية مكانة،
ويجد من يأخذ بيده من هذا المكان،
فيرقى به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة،
التي حققها الإسلام،
في فترة حية من فترات التاريخ الإنساني ..
إن الجاهلية ليست فترة ماضية من فترات التاريخ
. إنما الجاهلية كل منهج
تتمثل فيه عبودية البشر
للبشر.
وهذه الخاصية تتمثل اليوم في كل مناهج الأرض بلا استثناء.
ففي كل المناهج التي تعتنقها البشرية اليوم،
يأخذ البشر عن بشر مثلهم: التصورات والمبادئ، والموازين والقيم،
والشرائع والقوانين،والأوضاع والتقاليد.
وهذه هي الجاهلية بكل مقوماتها.
الجاهلية التي تتمثل فيها عبودية البشر للبشر،
حيث يتعبد بعضهم بعضا من دون الله.
والإسلام هو منهج الحياة الوحيد،
الذي يتحرر فيه البشر من عبودية البشر
لأنهم يتلقون التصورات والمبادئ،
والموازين والقيم، والشرائع والقوانين،
والأوضاع والتقاليد،
من يد الله – سبحانه
- فإذا أحنوا رءوسهم فإنما يحنونها لله وحده،
وإذا أطاعوا الشرائع فإنما يطيعون الله وحده،
وإذا خضعوا للنظام فإنما يخضعون لله وحده.
ومن ثم يتحررون حقا من عبودية العبيد للعبيد،
حين يصبحون كلهم عبيدا لله بلا شريك.
وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية
- في كل صورة من صورها
- وبين الإسلام.
..
ومع ملاحظة أن النصوص القرآنية
جاءت لتعمل في كل جيل وفي كل بيئة كما أسلفنا
وفي هذا تكمن المعجزة.
فهذه النصوص التي جاءت لتواجه أحوالا بعينها،
هي ذاتها التي تواجه الجماعة الإنسانية،
في أي طور من أطوارها.
والمنهج الذي التقط المجموعة المسلمة من سفح الجاهلية،
هو ذاته الذي يلتقط أية مجموعة
- أيا كان موقفها على الدرج الصاعد
- أيا كان موقفها على الدرج الصاعد
- ثم يبلغ بها إلى القمة السامقة،
التي بلغ إليها بالمجموعة الأولى،
يوم التقطها من ذلك السفح السحيق!
وهجر
القرآن أنواع:
وكل هذا داخل في قوله:
« وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا »
سورة الفرقان، الآية 30.
وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
وكذلك الحرج الذي في الصدور منه،
وكذلك الحرج الذي في الصدور منه،
فإنه تارة يكون حرجا من إنزاله وكونه حقا من عند الله.
وتارة يكون من جهة التكلم به أو كونه مخلوقا من بعض مخلوقاته ألهم
غيره إن تكلم به،
وتارة يكون من جهة كفايته
وعدمها وأنه لا يكفي العباد،
بل هم محتاجون معه إلى
المعقولات و الأقيسة أو الآراء أو السياسات.
وتارة يكون من جهة دلالته وما أريد به حقائقه المفهومة منه عند
الخطاب،
أو أريد به تأويلها وإخراجها عن حقائقها إلى تأويلات مستكرهة
مشتركة.
وتارة يكون من جهة كون تلك الحقائق وإن كانت مرادة،
فهي ثابتة في نفس الأمر أو
أوهم أنها مرادة لضرب من المصلحة.
فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن،
فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن،
وهم يعلمون ذلك من نفوسهم ويجدونه في صدورهم.
ولا تجد مبتدعا في دينه قط
إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته
كما أنك لا تجد ظالما فاجرا إلا وفي صدره حرج من الآيات التي تحول
بينه وبين إرادته.
فتدبر هذا المعنى ثم ارض لنفسك بما تشاء.
إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند
تلاوته وسماعه،
وأَلْقِ سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم
به سبحانه منه وإليه،
فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله ،
قال تعالى:
«إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب
أو ألقى السمع وهو شهيد»
«إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب
أو ألقى السمع وهو شهيد»
الآية: 37 من سورة ق.
قوله تعالى: « لمن كان له قلب»
والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله،
كما قال
تعالى: «إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ.
لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا»
لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا»
الآيتان: 69. 70 من سورة يس.
أي حي القلب.
وقوله:
«أو ألقى السمع»
أي وجَّه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما
يقال له،
وهذا شرط التأثر بالكلام. وقوله تعالى «وهو
شهيد»
أي شاهد القلب حاضر غير غائب.
فإن من الناس من يكون حي القلب واعيه، تامّ الفطرة،
فإن من الناس من يكون حي القلب واعيه، تامّ الفطرة،
فإذا فكَّر بقلبه وجال بفكره، دله قلبه وعقله
على صحة القرآن
وأنه الحق، وشهد قلبه بما أخبر به القرآن،
فكان ورود القرآن على قلبه نوراً على نور
الفطرة.
وهذا وصف الذين قيل فيهم:
«وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ»
الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ»
الآية: 6 من سورة سبأ.
وقال في حقهم: « الله نور السماوات والأرض
مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
المصباح في زجاجة
الزجاجة كأنها كوكب دري
يوقد من شجرة مباركة
زيتونة
لا شرقية ولا غربية
يكاد زيتها يضيء ولو
لم تمسسه نار،
نور على نور يهدي الله
لنوره من يشاء»
فهذا نور الفطرة على نور الوحي.
وهذا حال صاحب القلب الحي الواعي.
فصاحب القلب يجمع بين قلبه
وبين معاني القرآن فيجدها كأنها قد كتبت
فيه،
فهو يقرأها عن ظَهْر قَلْب.
ومن الناس من لا يكون تامَّ الاستعداد،
ومن الناس من لا يكون تامَّ الاستعداد،
واعي القلب، كامل الحياة،
فيحتاج إلى شاهد يميز له بين الحق والباطل،
ولم تبلغ حياة قلبه ونوره و ذكاء فطرته
مبلغ صاحب القلب الحي الواعي،
فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام
وقلبه لتأمله والتفكر فيه وتعقل معاينه،
فيعلم حينئذ أنه الحق.
فالأول حال من رأى بعينه ما دعي عليه وأخبر به.
فالأول حال من رأى بعينه ما دعي عليه وأخبر به.
والثاني حال من علم صدق المخبر وتيقنه
وقال: «
يكفيني خبره» فهو في مقام الإيمان،
والأول في مقام الإحسان.
هذا وقد وصل إلى علم اليقين،
هذا وقد وصل إلى علم اليقين،
وترقى قلبه منه إلى منزلة عين اليقين،
وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر
ودخل به في الإسلام.
فعين اليقين نوعان: نوع في الدنيا ونوع
في الآخرة،
فالحاصل في الدنيا نسبته إلى القلب كنسبة الشاهد
إلى العين.
وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة
بالأبصار،
وفى الدنيا بالبصائر،
« البصائر: من
البصيرة وهي التعقل والفطنة والانتباه.»
فهو عين يقين في المرتبتين.
«أفمن شرح الله صدره للإسلام
فهو على نور من ربه»
الزمر : الآية رقم : 22
..................
المصادر : في ظلال القرآن
الفوائد_الإمام شمس الدين أبي عبد الله بن
قيم الجوزية
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home