وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض
هذا مثل من الأمثال القرآنية التي بلغت ذروة الإعجاز والبلاغة من حيث استكمال الوضوح وتوصيل المعنى المراد وتقريبه للأفهام، ولذا قال ابن القيم في إعلام الموقعين في قيمة هذا المثل الرائع: "ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما، والله الموفق"[1].
فهما في الحقيقة مثلان اثنان نعرض لهما بالتفصيل لنفهم مراد الله منهما:
فهما في الحقيقة مثلان اثنان نعرض لهما بالتفصيل لنفهم مراد الله منهما:
- المثل الأول مائي: قال الله تعالى فيه: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا}، أنزل الله من السماء ماء فسال في الأودية، والوادي ينحصر بين جبلين، فإذا نزلت الأمطار انحدرت إلى أسفل، وجرت في هذه الأودية، والأودية هي محل الخِصب؛ لأن الطمي يتجمَّع فيها من الجبال مع ماء المطر، فيترسَّب تربةً خِصْبة تُنبِت أطيب الزروع.
ينزل المطر ليغسل التربة من الخبث والعناصر القذرة التي تطفو على السطح؛ وهي تطفو لأنها خفيفة الوزن، غير ثقيلة القدر، فهي غثاء، والغثاء من طبيعته أنه يعلو، لكن هل يظل كذلك؟ يُطمئِنُنا الحق أنه يحمي الحق ويُعليه قائلا: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17]، - وكما يضمحل هذا الزبد فيصير جفاء لا ينتفع به ولا تُرجى بركته، فكذلك يضمحل الباطل ويتبدَّد، والجفاء في اللغة هو ما رمى به الوادي إلى جنباته فيُقال: أجْفَأَت القِدْر بزبدها إذا ألقت زبدها عنها، فلا تظن أن الزبد له فائدة، أو أنَّ ارتفاعه علو في القدر، بل هو صعود مؤقت إلى زوال، وإن لم تذهب آثار الزبد بحركة الماء المستمرة، فإنها ستتكسر حتما على حافتي المجرى أو صخور الشاطئ حين تصل إليه، وكذلك هي فورة الباطل حين يعلو في لحظة طارئة من غفلة أهل الحق.
وهذا تطهيرٌ لازم للحق عبر حركة دائمة دائبة، ولذا قال الله:{فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً}، أي أن الحق يبقى صافيا ثابتا، أما الباطل فيعلو ليتجمع على الجوانب ليذهب بغير فائدة، وهو مثلٌ واقعي نراه في حياتنا، فالأرض والناس وكل المخلوقات تنتفع بالمياه كل يوم، لكنها لا تنتفع أبدا بالزبد!
وزبد المياه في هذا المثل يقابله على أرض الواقع: الزَّبد في القلب والزَّبد في الأرض.. فأما الزبد الذي في القلب فهو الشبهات والشهوات فيه، وهما مضمحلان تحت تأثير الوحي في القلب إذا استدعاه العبد والتجأ إليه، فالوحي باقٍ يمكث في أرض القلب لينتفع به المؤمن، ويثمر عملا صالحا كما ينبت الماء في الأرض عشبا وزرعا ونخلا وعنبا.
وأما الزبد الذي في الأرض فهو الباطل الذي يحارب الحق ويتصارع معه، وللباطل جولة، وإن علا على الحق يوما، لكن الحق له العاقبة، ولأهلة السيادة والظفر.
- والمثل الثاني مثل ناري: وذكر الله مثلا آخر وهو المثل الناري في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابتغاء حلية أو متاع زبدٌ مثله}، فالمعادن من ذهب أو فضة أو نحاس أو حديد عند سبكها تُخرِجُ ما فيها من خَبَث، وتفصله عن جوهر المعدن الذي يُنتَفع به، ومن رأى الحدّاد ينفخ في كيره على قطع الحديد يرى جيدا كيف أن الخبث والمواد الغريبة تنفصل عنه أثناء الصهر، وعندما يُخرِج المعدن خبثه يصير صُلبا قويا، فالنار المُحرقة ليست شرا بل فيها فائدة لا تتم إلا بها، وهي تنقية المعدن من شوائبه، فإذا أردت أن تصنع من الحديد درعا قوية، فلابد لك من صهره بالنار ليزداد صلابة، ومِثلُه الذهب والفضة لا يكتسبان قيمتهما ولا يعلو ثمنهما إلا بنار الكير وحرارة الصَّهر والسبك!
والنار في هذا المثل يقابلها في الواقع وعلى الأرض: نار المجاهدة في القلب، ونار محنة المؤمن وابتلائه في الأرض كما قال الشَّيخ محمَّد بن عبد القادر: يا بنيَّ! المصيبة ما جاءت لتُهلكَ، وإنَّما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك، فالمصيبة كير العبد، فإمّا أن يخرج ذهبا أو خَبَثا كما قيل:
سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا *** فأَبْدى الكيرُ عن خَبَثِ الحديد[2]
- لكن لماذا هذا التمثيل الحسي؟
إن الحق كالماء، والحق كالنار، والماء يحمل الزبد الرابي بعيدا عن مسام الأرض، والنار تخرج الزبد والخَبث من المعادن، وتجعل المعادن خالصة للمنفعة المطلوبة، والله سبحانه يقول: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل}، واختار الله لفظ الضرب؛ لأنه يوحي باحتدام الصراع وهيجان التفاعل ليقرع به أذن السامع قرعا ينفذ إلى قلبه، وينتهي به إلى أعماق نفسه.
ومن العجيب أن يصوِّره الله بهذين المثلين المحسوسين المتناقضين وهما الماء والنار، ومهما اختلطت بالحق شوائب فلابد من تنقيته بالحركة الدائمة، وتمحيصه ليتم تخليصه مما اعتراه من باطل، لكن .. لماذا لا يُعلن الحق عن نفسه منفردا في الساحة؟
ألم يكن الله قادرا أن ينتقم من الكفار جملة واحدة وينتهي الأمر؟!
والجواب: لقد أراد الله ذلك ليجعل الباطل جنديا من جنود الحق، ولو لم يُتعِب الباطل الناس أكانوا يتجهون صوب الحق؟
كلا؛ ولذلك كان لا بد أن يأتي الباطل للناس ويُتعبهم بحثا عن الحق.
وضربوا لذلك مثلا .. وهو أن الألم عند المريض جندٌ من جنود العافية، فلولاه لاستشرى الداء دون أن يشعر المريض حتى يُهلكه، لكن الألم يلفت انتباه المريض إلى موضع الداء، ويدفعه للبحث عن الدواء للاستشفاء، وبذلك يبلغ ساحل العافية.
فالباطل إذن من جنود الحق كما الألم من جنود الشفاء؛ - ويبتلي الله أهل الحق بأهل الباطل ليدمغ الباطلَ بالحق، وتهوي سافلة كلمة الباطل أمام كلمة الله العالية كما قال ربنا: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا} [التوبة: 40].
ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى جاء بالجعل لكلمة الكافرين، وسياقها بالجملة الفعلية يوحي بالتغير، وأنه علو طارئ لما يُشعِر به الجعل من الاضطراب، وأما كلمته سبحانه وتعالى فجاءت بالجملة الإسمية التي تُستَعمل في إثبات الحقائق الراسخة، لأن كلمة الله هي العليا دوما، والعلاء مصير كل من تمسَّك بها، والدنو والتسفل جزاء من هجرها أو عاداها، وإذا تصادمت الكلمتان وتصارعتا بطلت كلمة الذين كفروا، واستقر ثبوت كلمة الله في المعالي.
[1] إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/118 - ابن قيم الجوزية - ط دار الكتب العلمية - ييروت.
[2] الآداب الشرعية والمنح المرعية 3/305.
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home