لأرزقن من لا حيلة له حتى يتعجب أصحاب الحيل
هل تذكر شخصية "فورست جامب" في ذلك الفيلم الجميل الذي يحمل اسمه ؟ إنه كما تعرف شاب محدود القدرات العقلية وبطئ الفهم ، وقد كافحت أمه التي أحبته من قلبها لإلحاقه بالمدارس العامة وليس بمدارس التربية الفكرية الخاصة لكيلا يشعر بالنقص تجاه زملائه ، فواصل دراسته بصعوبة شديدة ، وصمد لسخرية التلاميذ الأشقياء منه لأنه يستخدم جهازًا لتقويم الساقين خلال المشي ، ولاحقه الصغار ذات مرة بالدراجات وهو
يسير مع التلميذة
الوحيدة التي تعاطفت معه فصرخت فيه الطفلة أن يجري لينجو من إيذائهم فراح يحجل
بالجهاز ، مبتعدًا عنهم ، ونظر وراءه فرأى الشياطين الصغار يقتربون منه فتملكه
الرعب ، فإذا به يجري بقوة الخوف الشديد وحده ، لا يعرف كيف ، وإذا بالجهاز يتحطم
عن ساقيه وهو يجري كالسهم عائدًا إلى البيت ويتخلص منذ ذلك اليوم من جهاز الساقين
، ولم يكن من قبل يستطيع المشي بدونه !
وفي المدرسة الثانوية تتكرر معه نفس القصة بتفاصيلها ويلاحقه زملاؤه العابثون بسيارة لينالوا منه وهو يسير مع زميلة طفولته نفسها .. فتهتف به مرة أجرى أن يجري ، لينجو منهم ، فيجري كالسهم وكلما التفت خلفه ورأى السيارة تقترب منه ضاعف من سرعته بقوة عجيبة فإذا به يقتحم من حيث لا يدري أرضا تجري عليها مباراة تدريبية في البيسبول .. وإذا به يقطع الملعب كالصاروخ المنطلق فيسبق كل اللاعبين وسط ذهول الجميع ، ويهتف المدرب لمن حوله : أريد هذا الشاب ! ، ولا يأبه باعتراضات مساعديه بأنه لا يعرف شيئًا عن اللعبة أو بأنه شاب بطئ الفهم وليس ذكيًا ، ويضمه للفريق بالفعل ، ولا يطلب منه سوى أن يجري بسرعته الفائقة هذه كلما تسلم الكرة فيصبح الشاب بعد قليل نجمًا في لعبة رياضية لم يحلم يومًا بممارستها .. وتتخاطفه الجامعات وتغريه على الالتحاق بها بتقديم المنح الدراسية له لكي يلعب لفريقها ، وينضم لمنتخب الجامعات على مستوى الدولة ، ويحظى بمقابلة رئيس الدولة مع أعضاء الفريق ،
ويذهل كل من يعرفونه لما حققه لنفسه من نجاح ، وقد توقع الجميع له دائمًا الفشل والخمول !
ثم يؤدي الخدمة العسكرية ويشارك في القتال في فيتنام ، وتتعرض وحدته العسكرية لكمين وسط الأحراش وتنهال عليها القذائف ، وينجو هو بسرعته الفائقة في الجري من الخطر ويرجع إلى الأمان مع من رجعوا .. لكن أين صديقه الأسود الطيب الذي كان الوحيد من بين جنود الوحدة الذي رحب بصداقته ، وتحدث معه عن أحلامه في أن يعمل بعد الحرب في صيد الجمبري ، وعرض عليه أن يعمل معه فلم يجد مانعًا من القبول .. نعم أين هذا الصديق ؟ .. إنه مازال في منطقة الخطر وسط الأحراش ولابد من العودة إليه لإنقاذه ، ويرجع الشاب محدود التفكير إلى الغابة ولو كان من أهل الذكاء لما رجع فيستنجد به جريح آخر أن يحمله بعيدًا عن الخطر فلا يردُّ نداءه حتى ولو كان من الساخرين منه من قبل ، ويرجع لإنقاذ صديقه من جديد يسمع استغاثة جندي آخر وينقذه ، ويكرر العملية فينقذ بذلك خمسة من الجرحى من بينهم قائد الوحدة ، ويرجع في النهاية حاملاً صديقه الذي يلفظ أنفاسه بين ذراعيه ، ويفاجأ وهو في المستشفى يعالج من جراحه باثنين من كبار الضباط يقفان أمام فراشه ويقدمان إليه نوط الشجاعة ! .. ويستدعى بعد تماثله للشفاء إلى العاصمة فيقابل رئيس الجمهورية مع أصحاب البطولات في الحرب !
ويسأل نفسه بعد انتهاء خدمته العسكرية ماذا يفعل بحياته الآن .. فيتذكر صديقه الأسود وحلمه القديم شراء سفينة صغيرة لصيد الجمبري .. ويقرر وفاءً له أن يحقق الحلم ويشتري بمكافأته سفينة ، يسجل نصفها باسم أسرة هذا الصديق الراحل ويمارس الصيد بلا أية خبرة سابقة فلا يجني إلا الخسائر .. ولأنه ليس من أهل الذكاء فإنه لا يعرف لنفسه عملاً سواه ، فإذا بقائده السابق الذي أصبح الآن مبتور الساقين ينضم إليه في العمل ، ويتخبطان بعض الوقت في عثرات البداية وعقبات نقص الخبرة ثم يخرجان إلى البحر ذات يوم وتهب عاصفة قوية فترجع السفن كلها إلى المرفأ الآمن ، أما سفينتهما فتبقى في البحر لأن القائد العسكري السابق تتملكه رغبة قوية في الانتحار والتخلص من حياته ، ولأن الشاب الطيب لا يسمح له ذكاؤه بتقدير الخطر الكبير الذي يهدد السفينة ، فإذا بهذه المغامرة الانتحارية التي لم يفهم الشاب دوافعها لدى شريكه تكون بداية الخير لمشروعهما الفاشل ، وإذا بهذه السفينة تصمد للعاصفة وتصيد كل ما كان مقدرًا لغيرها من السفن أن تصيده من الجمبري ، وتتحقق الأرباح لأول مرة ثم تتواصل .. ثم تصبح السفينة الواحدة سفينتين ثم "ثلاثًا" ثم "أربعًا" .. ثم أسطولاً صغيرًا من سفن الصيد يديره ذلك القائد الجريح الذي استرد الآن رغبته في الحياة ويتحول الشاب الطيب إلى مليونير يعيش في بيته في أمان وسلام . هذه هي قصة "فورست جامب" بعد اختصار كثير من تفاصيلها .. وقد أراد مؤلفها أن يقول لنا بها شيئين هامين : الأول أن استشعار الخطر الشديد قد يطلق في الإنسان قوة داخلية في أعماقه تدفعه لكي ينجو من الخطر إلى القيام بأعمال لم يكن يشعر من قبل بقدرته على إنجازها ، والثاني أن النجاح في الحياة ليس مقصورًا – كما يظن البعض – على الأذكياء وأصحاب العقول والعبقرية وحدهم ، فمن أصحاب القلوب الطيبة والنية السليمة أيضًا من لا تحرمهم الحياة كذلك من التوفيق والنجاح حتى وإن جهلوا هم أنفسهم أسباب هذا التوفيق .
وكل ذلك صحيح .. ولعلي أضيف إليه خاطرًا آخر أكثر أهمية قد لا يكون جاء بذهن مؤلف القصة نفسه لأنه خاطر إيماني يبدو غير مألوف في بعض الأحيان بالنسبة للعقلية الغربية المادية في مجملها ، وهو أن قصة فورست جامب وقصص أمثاله مع الحياة ، إنما تقدم لنا الدليل المتجدد كل يوم على صدق الوعد الإلهي الذي قطعه الله سبحانه وتعالى على ذاته العلية في الحديث القدسي الذي يقول ما معناه : وعزتي وجلالي .. لأرزقن من لا حيلة له حتى يتعجب أصحاب الحيل !
أما لماذا أراد الله بحكمته التي تجل عن الأفهام أن يتعجب أصحاب الحيل أمام هذه النماذج البشرية التي لا ترشحها قدراتها العقلية لإحراز أي نجاح أو تفوق في الحياة ، فلكي يتذكر الجميع في غمار صراعهم وطموحهم الضاري .. وتقاتلهم للفوز بفرص النجاح ، أن الله سبحانه وتعالى وحده هو من "يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" وليس أحد سواه .. فإن لم يتذكروا ذلك ويعترفوا به ويشكروا خالقهم عليه .. وانساقوا وراء غرورهم البشري وتصوروا أنهم قد حققوا ما حققوه "بعبقريتهم" وحدها .. أو "على علم عندي" كما قال قارون ذات يوم معتزًا بماله وناسيًا فضل الله عليه حتى خسف به الأرض ، إذا حدث ذلك فقد تتكرر في الحياة قصة أمثال فورست جامب لكي يتذكر الجميع قدرته سبحانه وتعالى ، ويعترفوا لأنفسهم بأنه الواهب وحده سبحانه وليس أحدًا سواه ، وأنه ليس لديهم ما يبرر لهم غرورهم واعتزازهم عبقريتهم ونبوغهم .. "لأن الفضل لمن منحك وليس لمن مدحك" كما يقول ابن عطاء الله السكندري في الحكم العطائية .. فإن لم تصدقني في ذلك فلسوف لأروي لك قصة فورست المصري التي عرفت طرفًا منها عن قرب .. وهي قصة تتكرر كثيرًا في الحياة ويجمع بين شخصياتها الواقعية وليس الدرامية كشخصية فورست الأمريكي سمات مشتركة هي أن أصحابها يشتركون غالبًا في قدراتهم العقلية المحدودة التي لا تؤهلهم لولا إرادة الله إلى النجاح والثراء ، وأيضًا في سلامة طويتهم وطيبة قلوبهم وحسن ظنهم بالله ، وبالناس كذلك ولو كان ذلك مخالفًا حرص الأذكياء على التشكك غالبًا في الآخرين !
أما فورست المصري .. فلقد كان شابًا طيب القلب حسن النية يسخر من سذاجته وضعف تفكيره زملاؤه بالمدرسة الثانوية بإحدى مدن الأقاليم الصغيرة ويعابثونه فلا يضيق بمعابثاتهم ولا يشكو منها ، حتى أشفق عليه أبوه التاجر متوسط الحال فأعفاه من مواصلة الدراسة وتحمَّل مضايقات العابثين خاصة وهو يتعثَّر فيها رغم ما يبذله من جهد كبير للاستذكار ، وطالبه بالعمل معه في تجارته استعدادًا لأن يخلفه فيها بعد عمر طويل ، واستراح الشاب الطيب لحياته الجديدة .. وقضى معظم أوقاته في الوكالة التي يملكها أبوه مع عمالها .. يعايشهم ويستريح لحديثهم ويشاركهم طعام الغداء البسيط كل يوم ولا تختلف هيئته عن هيئتهم في شيء وعبثًا حاول أبوه أن يعلمه فن "الإدارة" وأسرار التجارة ، فلم يجد لديه استعدادًا عقليًا لشيء من ذلك ، فسلم أمره لله فيه وتساءل مشفقًا في باطنه : كيف سيدير ابنه الشاب هذا العمل من بعده وهو على هذه الحال ؟ ثم ترك أمره للمقادير ورحل الأب عن الحياة في موعده المقدور ، وأصبح هذا الشاب فجأة هو صاحب العمل ومديره المسئول ، وأشفق عليه الجميع من الإفلاس الوشيك المؤكد ، لأن التجارة تحتاج إلى عقلية اقتصادية ، وقدرة على تحاذ القرار السليم في وقته المناسب ، وقدرة على مراقبة أعمال الآخرين لكيلا يسرقوا جهده ويختلسوه لأنفسهم ، والشاب عاطل عن كل ذلك ، فماذا سيكون من أمره سوى أن يحل به وبأسرته الخراب بعد قليل ، لقد حذره الناصحون مرارًا .. وطالبوه بأن يراقب عماله جيدًا ، وأن يقدم الشك والارتياب على حسن الظن فيهم ليتجنب المهالك ، واستمع هو للجميع شاكرًا إخلاصهم ، ثم لم ينفذ من وصاياهم شيئًا ، وسأل نفسه هو بمنطقه البسيط ولماذا يتوقع الجميع أن يسرقه هؤلاء الناس ، وهو يحبهم وهم يحبونه ويشاركونه طعامه ، وجلسات سمره البرئ بعد نهاية العمل .. ولا يرفض لأحدهم طلبًا ؟
ولماذا يشكك البعض دائمًا في نية الآخرين ولا يفترضون فيهم أبدًا الأمانة والشرف إلى أن يثبت العكس ؟ .. لقد استبعد على الفور أي سوء ظن في هؤلاء العمال الذين يستريح إلى صداقتهم أكثر من غيرهم ولم يجد لديهم منذ نشأته إلا الحب والاحترام ، حتى لو أفلت منه أمامهم أحيانًا سلوك ساذج أو تصرف مرتبك قد يثير الابتسام ، لقد كان زملاؤه بالمدرسة يسخرون منه في مثل هذه المواقف بقسوة ، لكن هؤلاء العمال لا يفعلون ذلك ، وأقصى ما يفعله أحدهم إذا لاحظ ارتباكه في موقف مواقف العمل التجاري ، أو اكتشف غلطة حسابية له ، حيث لا يجيد الحساب ، هو أن يتدخل لنجدته برفق ، ويصحح خطأه على استحياء محاولاً ستر عيبه وليس فضحه ، فماذا يدعوه إذًا للشك في نيتهم تجاهه ؟
إنه يعتمد عليهم ويثق فيهم ، لكنه مادام الناصحون يلحون عليه ، إذًا فليؤمن نفسه ضد احتمالات الغدر وخيانة الأمانة باتخاذ بعض الاحتياطات الرقابية المهمة إرضاءً للناصحين قيل أي شيء ، أما هذه الإجراءات الخطيرة فلقد تمثلت فيما فعل وهو يتناول الغداء مع العمال عقب رحيل أبيه بأيام حين رفع بيده رغيف الخبز إلى مستوى جبهته ، وقال لمن حوله بصوته الرفيع الذي تتآكل منه الحروف فيثير ابتسام السامعين : ربنا على من يخون الخبز والملح ! فإذا بالجميع يرددون وراءه "العهد" ..
ويستريح ضميره هو ويتناول طعامه بعد ذلك بشهية عجيبة !
فإذا كنت من دارسي الاقتصاد وعلم إدارة الأعمال ، فلربما تسخر من مثل هذا "الإجراء الرقابي" الخطير الذي اتخذه ، وتتنبأ لتجارته بالبوار المؤكد خلال فترة قصيرة ، ولن يلومك أحد على ذلك إذا فعلت ، لكن كيف يكون ظنك بكل النظريات الاقتصادية والقواعد الإدارية والتجارية المستقرة ، إذا عرفت أن هذا الشاب قد رَبَت تجارته وازدهرت أعماله .. وحقق لنفسه ولأسرته في عشرين سنة ما لم يحقق أبوه التاجر الأريب المحنك الذي لم تكن تفوته فائتة من أعمال التجارة وفن الإدارة .
تسألني كيف حدث ذلك وهو لا يملك القدرة العقلية اللازمة للنجاح ولا يجيد حتى الحساب ، أو اتخاذ القرارات التجارية السليمة ، فأجيبك بأنه هكذا قضى ربك ، ولا معقب على إرادته .. ولحكمة لا تخفى على الأذهان هي أن يراجع أصحاب الحيل أنفسهم ويسلموا له وحده بأنه سبحانه وتعالى من يرزق من يشاء بغير حساب وليس أحدًا سواه ، ولكي يخففوا من غرورهم وغلوائهم واعتزازهم بقدراتهم وعبقريتهم ومالهم ، ويعرفوا أن الفضل لمن منحك وليس لأي شيء آخر ، فإذا كان العمل الناجح يتطلب من الإنسان الكفاح والصبر وإتباع القواعد السليمة للإدارة والعمل ، فكل ذلك صحيح ومطلوب ، لكنه ينبغي بعد أن تفعل كل ذلك أن تؤمن أيضًا بأن هذه هي الأسباب والوسائل التي نتوسل بها لتحقيق أهدافنا في الحياة ، ويبقى بعد ذلك أن ننتظر توفيق الله لنا .. وبغيره لا نحقق لأنفسنا شيئًا ولو جرينا في الدنيا جري الوحوش ، وقصة كل "فورست" مع الحياة هي خير برهان ، وإذا كان هذا الشاب محدود القدرة العقلية ، فلقد كان من عقول وكيله ومساعديه ما يعوض به نقصه ، وإذا كان يرتبك أمام بعض المواقف وقد يتخذ قرارًا خاطئًا حرجًا من الرفض والاعتذار ، فربَّ قرار يبدو لنا الآن خاطئًا .. قد يحقق بعض حين نتائج باهرة .
ولسوف أروي لك نموذجين فقط من قرارات هذا الشاب الطيب التي لامه الجميع عليها ، فلقد زارته أرملة فقيرة تربي أيتامًا صغارًا لترجوه وتلح عليه في الرجاء أن يشتري بيتها الآيل للسقوط الذي تعيش فيه لكي تربي الصغار بثمنه بعد انقطاع كل مورد لهم ، وتؤجر هي وأولادها غرفة رخيصة في بيت آخر ، ولقد لجأت إليه بعد أن رفض كل من عرضت عليهم شراءه ، لأنه شبه متهدم وفي حارة ضيقة كشق الثعبان ومسدودة ولا أمل في حسن استثماره في المستقبل ، فاعتذر الشاب الطيب هو أيضًا عن الشراء وعرض عليها بدلاً من ذلك مساعدة مالية صغيرة ، لكنها بكت واستعطفته فلم يستطع الصمود أمام دموعها واشترى البيت بأعلى سعر قدرته هي وسط اعتراض وكيله وعماله وعتابهم له ، وسخطهم الصاخب على هذه المرأة "الماكرة" التي عرفت كيف تستغل سذاجته وطيبة قلبه .. ووقّع الرجل الأوراق ودفع اثمن وكان بضع مئات ، ثم نسي أمر هذا البيت المهجور ، وانشغل ببيته وتجارته إلى أن "ذكّره" به ذات يوم بعد ست سنوات رجل مهيب جاء يطلب شراءه لأن الحارة الضيقة قد تحولت إلى شارع واسع بعد هدم بيوتها القديمة ولأنه يريد أن يبني عمارة حديثة في موقع هذا البيت المتهدم .. "فيتذكر" البيت القديم ويسأل الرجل عن الثمن الذي يرغب في دفعه ، فإذا به يعرض عليه فيه بضعة عشرات من الألوف ، وإذا بوكيل الشاب الطيب يتدخل في الحديث ويطلب زيادة في السعر ويستجيب المشتري ويربح الشاب ثروة جديدة لم يحسب لها حسابًا من قبل .
أما القرار الآخر الأكثر حظًا ، فلقد اتخذه حين زاره في الوكالة مهندس البلدية ومأمور الشرطة واثنان من أعضاء المجلس البلدي يطلبون منه باعتباره من "سراة" المدينة ، شراء ألف متر في موقع عمراني جديد للمدينة الصغيرة ، وقد أملوا فيه أن يشتري هذه المساحة لكي يشجع خطط تعميرها بعد أن خذلهم معظم تجار المدينة الحصفاء وبرروا رفضهم بأن المدينة جديدة ، ولا تعد بأي مستقبل ، ويجفل الشاب الذي فطر على تهيب الحكومة من أن يرفض هذا الطلب لأنه لا يملك الشجاعة النفسية لذلك ، لكنه يأمل فقط الرأفة بحاله وفي أن يقبل هؤلاء الأشخاص المهمون توسلاته إليهم أن يترفقوا به ويقبلوا مساهمته في مشروع التعمير بشراء مائتي متر فقط ، بدلاً من ألف .
لكن الأشخاص المهمين يتعمدون استغلال حرجه منهم وتهيبه الواضح لهم ويلحون عليه أن يقبل شراء المساحة كلها ، ولسوف يقدرون له كثيرًا هذه المساهمة المشكورة في تعمير المدينة ، ولسوف يشيدون بوطنيته في اجتماع المجلس البلدي القادم ، فلا يجد الرجل مناصًا من القبول حرجًا وحياءً وعجزًا عن المقاومة والرفض ، ويوقع الأوراق وهو حزين ووكيله غاضب .. وأهله ثائرون على ضعفه وخيبته ، ويسدد الثمن بالتقسيط وكلما حلّ موعد سداد قسط تجدد اللوم له والعتاب .. فلا تمضي عشر سنوات فقط حتى تصبح هذه المنطقة الجديدة هي ريفيرا المدينة ، ويرتفع سعر المتر فيها من بضع جنيهات إلى بضع مئات ، وتنهال عليه طلبات الشراء بالأسعار العالية يصبح الرجل مليونيرًا من حيث لم يقصد ، ويلاحقه التوفيق بعد ذلك في كل خطواته وبلا جهد يذكر من جانبه .. ولا فضل له اللهم إلا حسن نيته وسلامة طويته وتواضعه لربه وشكره الدائم له على نعمته ، فإذا كان من أهداف الحكمة الإلهية في رزق من لا حيلة له ، أن يتعجب أصحاب الحيل فلقد حققت الحكمة الإلهية في حالة هذا الرجل هدفًا آخر هو أن "يتعجب" من لا حيلة له نفسه من هذا الرزق المنهمر عليه بلا حساب ، ولقد كان الرجل دائم التعجب بالفعل من توفيق الله له في كل أعماله وخطواته ، دائم الشكر لله على نعمته وعلى فضله ، ولا يدعي لنفسه حصافة ولا عبقرية ولا نبوغًا ، ولقد كان آخر ما عرفت من سيرته أنه قد دأب في سنواته الأخيرة ، وكلما فوجئ بثروة جديدة تهبط عليه من حيث لا يدري ولا يحتسب ، أن يرفع رأسه إلى السماء أمام الجميع ، ويخاطب ربه شاكرًا و"راجيًا" : كفاية كده يا رب .. أعطِ غيري !
فلا يزيده ربه إلا ثراءً على ثراء ، ونعمة على نعمة "وسنجزي الشاكرين" صدق الله العظيم
فما رأيك في قصة فورست المصري هذا وأمثاله ؟
وما رأيك في بعض محدثي النعمة الجدد الذين يصعرون خدودهم للآخرين ويتعالون على الجميع ويمشون في الأرض مرحًا ، ويستشعرون في أنفسهم كبرياءً زائفًا .. وعبقرية موهومة .. وقوة كاذبة .. ولسان حال كل منهم يقول أنه قد حقق لنفسه ما حققه "على علم عنده" .. وليس لأن "الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" وهذا حق وصدق ، ولو كان الجميع من أصحاب الحيل والنبوغ ؟
وفي المدرسة الثانوية تتكرر معه نفس القصة بتفاصيلها ويلاحقه زملاؤه العابثون بسيارة لينالوا منه وهو يسير مع زميلة طفولته نفسها .. فتهتف به مرة أجرى أن يجري ، لينجو منهم ، فيجري كالسهم وكلما التفت خلفه ورأى السيارة تقترب منه ضاعف من سرعته بقوة عجيبة فإذا به يقتحم من حيث لا يدري أرضا تجري عليها مباراة تدريبية في البيسبول .. وإذا به يقطع الملعب كالصاروخ المنطلق فيسبق كل اللاعبين وسط ذهول الجميع ، ويهتف المدرب لمن حوله : أريد هذا الشاب ! ، ولا يأبه باعتراضات مساعديه بأنه لا يعرف شيئًا عن اللعبة أو بأنه شاب بطئ الفهم وليس ذكيًا ، ويضمه للفريق بالفعل ، ولا يطلب منه سوى أن يجري بسرعته الفائقة هذه كلما تسلم الكرة فيصبح الشاب بعد قليل نجمًا في لعبة رياضية لم يحلم يومًا بممارستها .. وتتخاطفه الجامعات وتغريه على الالتحاق بها بتقديم المنح الدراسية له لكي يلعب لفريقها ، وينضم لمنتخب الجامعات على مستوى الدولة ، ويحظى بمقابلة رئيس الدولة مع أعضاء الفريق ،
ويذهل كل من يعرفونه لما حققه لنفسه من نجاح ، وقد توقع الجميع له دائمًا الفشل والخمول !
ثم يؤدي الخدمة العسكرية ويشارك في القتال في فيتنام ، وتتعرض وحدته العسكرية لكمين وسط الأحراش وتنهال عليها القذائف ، وينجو هو بسرعته الفائقة في الجري من الخطر ويرجع إلى الأمان مع من رجعوا .. لكن أين صديقه الأسود الطيب الذي كان الوحيد من بين جنود الوحدة الذي رحب بصداقته ، وتحدث معه عن أحلامه في أن يعمل بعد الحرب في صيد الجمبري ، وعرض عليه أن يعمل معه فلم يجد مانعًا من القبول .. نعم أين هذا الصديق ؟ .. إنه مازال في منطقة الخطر وسط الأحراش ولابد من العودة إليه لإنقاذه ، ويرجع الشاب محدود التفكير إلى الغابة ولو كان من أهل الذكاء لما رجع فيستنجد به جريح آخر أن يحمله بعيدًا عن الخطر فلا يردُّ نداءه حتى ولو كان من الساخرين منه من قبل ، ويرجع لإنقاذ صديقه من جديد يسمع استغاثة جندي آخر وينقذه ، ويكرر العملية فينقذ بذلك خمسة من الجرحى من بينهم قائد الوحدة ، ويرجع في النهاية حاملاً صديقه الذي يلفظ أنفاسه بين ذراعيه ، ويفاجأ وهو في المستشفى يعالج من جراحه باثنين من كبار الضباط يقفان أمام فراشه ويقدمان إليه نوط الشجاعة ! .. ويستدعى بعد تماثله للشفاء إلى العاصمة فيقابل رئيس الجمهورية مع أصحاب البطولات في الحرب !
ويسأل نفسه بعد انتهاء خدمته العسكرية ماذا يفعل بحياته الآن .. فيتذكر صديقه الأسود وحلمه القديم شراء سفينة صغيرة لصيد الجمبري .. ويقرر وفاءً له أن يحقق الحلم ويشتري بمكافأته سفينة ، يسجل نصفها باسم أسرة هذا الصديق الراحل ويمارس الصيد بلا أية خبرة سابقة فلا يجني إلا الخسائر .. ولأنه ليس من أهل الذكاء فإنه لا يعرف لنفسه عملاً سواه ، فإذا بقائده السابق الذي أصبح الآن مبتور الساقين ينضم إليه في العمل ، ويتخبطان بعض الوقت في عثرات البداية وعقبات نقص الخبرة ثم يخرجان إلى البحر ذات يوم وتهب عاصفة قوية فترجع السفن كلها إلى المرفأ الآمن ، أما سفينتهما فتبقى في البحر لأن القائد العسكري السابق تتملكه رغبة قوية في الانتحار والتخلص من حياته ، ولأن الشاب الطيب لا يسمح له ذكاؤه بتقدير الخطر الكبير الذي يهدد السفينة ، فإذا بهذه المغامرة الانتحارية التي لم يفهم الشاب دوافعها لدى شريكه تكون بداية الخير لمشروعهما الفاشل ، وإذا بهذه السفينة تصمد للعاصفة وتصيد كل ما كان مقدرًا لغيرها من السفن أن تصيده من الجمبري ، وتتحقق الأرباح لأول مرة ثم تتواصل .. ثم تصبح السفينة الواحدة سفينتين ثم "ثلاثًا" ثم "أربعًا" .. ثم أسطولاً صغيرًا من سفن الصيد يديره ذلك القائد الجريح الذي استرد الآن رغبته في الحياة ويتحول الشاب الطيب إلى مليونير يعيش في بيته في أمان وسلام . هذه هي قصة "فورست جامب" بعد اختصار كثير من تفاصيلها .. وقد أراد مؤلفها أن يقول لنا بها شيئين هامين : الأول أن استشعار الخطر الشديد قد يطلق في الإنسان قوة داخلية في أعماقه تدفعه لكي ينجو من الخطر إلى القيام بأعمال لم يكن يشعر من قبل بقدرته على إنجازها ، والثاني أن النجاح في الحياة ليس مقصورًا – كما يظن البعض – على الأذكياء وأصحاب العقول والعبقرية وحدهم ، فمن أصحاب القلوب الطيبة والنية السليمة أيضًا من لا تحرمهم الحياة كذلك من التوفيق والنجاح حتى وإن جهلوا هم أنفسهم أسباب هذا التوفيق .
وكل ذلك صحيح .. ولعلي أضيف إليه خاطرًا آخر أكثر أهمية قد لا يكون جاء بذهن مؤلف القصة نفسه لأنه خاطر إيماني يبدو غير مألوف في بعض الأحيان بالنسبة للعقلية الغربية المادية في مجملها ، وهو أن قصة فورست جامب وقصص أمثاله مع الحياة ، إنما تقدم لنا الدليل المتجدد كل يوم على صدق الوعد الإلهي الذي قطعه الله سبحانه وتعالى على ذاته العلية في الحديث القدسي الذي يقول ما معناه : وعزتي وجلالي .. لأرزقن من لا حيلة له حتى يتعجب أصحاب الحيل !
أما لماذا أراد الله بحكمته التي تجل عن الأفهام أن يتعجب أصحاب الحيل أمام هذه النماذج البشرية التي لا ترشحها قدراتها العقلية لإحراز أي نجاح أو تفوق في الحياة ، فلكي يتذكر الجميع في غمار صراعهم وطموحهم الضاري .. وتقاتلهم للفوز بفرص النجاح ، أن الله سبحانه وتعالى وحده هو من "يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" وليس أحد سواه .. فإن لم يتذكروا ذلك ويعترفوا به ويشكروا خالقهم عليه .. وانساقوا وراء غرورهم البشري وتصوروا أنهم قد حققوا ما حققوه "بعبقريتهم" وحدها .. أو "على علم عندي" كما قال قارون ذات يوم معتزًا بماله وناسيًا فضل الله عليه حتى خسف به الأرض ، إذا حدث ذلك فقد تتكرر في الحياة قصة أمثال فورست جامب لكي يتذكر الجميع قدرته سبحانه وتعالى ، ويعترفوا لأنفسهم بأنه الواهب وحده سبحانه وليس أحدًا سواه ، وأنه ليس لديهم ما يبرر لهم غرورهم واعتزازهم عبقريتهم ونبوغهم .. "لأن الفضل لمن منحك وليس لمن مدحك" كما يقول ابن عطاء الله السكندري في الحكم العطائية .. فإن لم تصدقني في ذلك فلسوف لأروي لك قصة فورست المصري التي عرفت طرفًا منها عن قرب .. وهي قصة تتكرر كثيرًا في الحياة ويجمع بين شخصياتها الواقعية وليس الدرامية كشخصية فورست الأمريكي سمات مشتركة هي أن أصحابها يشتركون غالبًا في قدراتهم العقلية المحدودة التي لا تؤهلهم لولا إرادة الله إلى النجاح والثراء ، وأيضًا في سلامة طويتهم وطيبة قلوبهم وحسن ظنهم بالله ، وبالناس كذلك ولو كان ذلك مخالفًا حرص الأذكياء على التشكك غالبًا في الآخرين !
أما فورست المصري .. فلقد كان شابًا طيب القلب حسن النية يسخر من سذاجته وضعف تفكيره زملاؤه بالمدرسة الثانوية بإحدى مدن الأقاليم الصغيرة ويعابثونه فلا يضيق بمعابثاتهم ولا يشكو منها ، حتى أشفق عليه أبوه التاجر متوسط الحال فأعفاه من مواصلة الدراسة وتحمَّل مضايقات العابثين خاصة وهو يتعثَّر فيها رغم ما يبذله من جهد كبير للاستذكار ، وطالبه بالعمل معه في تجارته استعدادًا لأن يخلفه فيها بعد عمر طويل ، واستراح الشاب الطيب لحياته الجديدة .. وقضى معظم أوقاته في الوكالة التي يملكها أبوه مع عمالها .. يعايشهم ويستريح لحديثهم ويشاركهم طعام الغداء البسيط كل يوم ولا تختلف هيئته عن هيئتهم في شيء وعبثًا حاول أبوه أن يعلمه فن "الإدارة" وأسرار التجارة ، فلم يجد لديه استعدادًا عقليًا لشيء من ذلك ، فسلم أمره لله فيه وتساءل مشفقًا في باطنه : كيف سيدير ابنه الشاب هذا العمل من بعده وهو على هذه الحال ؟ ثم ترك أمره للمقادير ورحل الأب عن الحياة في موعده المقدور ، وأصبح هذا الشاب فجأة هو صاحب العمل ومديره المسئول ، وأشفق عليه الجميع من الإفلاس الوشيك المؤكد ، لأن التجارة تحتاج إلى عقلية اقتصادية ، وقدرة على تحاذ القرار السليم في وقته المناسب ، وقدرة على مراقبة أعمال الآخرين لكيلا يسرقوا جهده ويختلسوه لأنفسهم ، والشاب عاطل عن كل ذلك ، فماذا سيكون من أمره سوى أن يحل به وبأسرته الخراب بعد قليل ، لقد حذره الناصحون مرارًا .. وطالبوه بأن يراقب عماله جيدًا ، وأن يقدم الشك والارتياب على حسن الظن فيهم ليتجنب المهالك ، واستمع هو للجميع شاكرًا إخلاصهم ، ثم لم ينفذ من وصاياهم شيئًا ، وسأل نفسه هو بمنطقه البسيط ولماذا يتوقع الجميع أن يسرقه هؤلاء الناس ، وهو يحبهم وهم يحبونه ويشاركونه طعامه ، وجلسات سمره البرئ بعد نهاية العمل .. ولا يرفض لأحدهم طلبًا ؟
ولماذا يشكك البعض دائمًا في نية الآخرين ولا يفترضون فيهم أبدًا الأمانة والشرف إلى أن يثبت العكس ؟ .. لقد استبعد على الفور أي سوء ظن في هؤلاء العمال الذين يستريح إلى صداقتهم أكثر من غيرهم ولم يجد لديهم منذ نشأته إلا الحب والاحترام ، حتى لو أفلت منه أمامهم أحيانًا سلوك ساذج أو تصرف مرتبك قد يثير الابتسام ، لقد كان زملاؤه بالمدرسة يسخرون منه في مثل هذه المواقف بقسوة ، لكن هؤلاء العمال لا يفعلون ذلك ، وأقصى ما يفعله أحدهم إذا لاحظ ارتباكه في موقف مواقف العمل التجاري ، أو اكتشف غلطة حسابية له ، حيث لا يجيد الحساب ، هو أن يتدخل لنجدته برفق ، ويصحح خطأه على استحياء محاولاً ستر عيبه وليس فضحه ، فماذا يدعوه إذًا للشك في نيتهم تجاهه ؟
إنه يعتمد عليهم ويثق فيهم ، لكنه مادام الناصحون يلحون عليه ، إذًا فليؤمن نفسه ضد احتمالات الغدر وخيانة الأمانة باتخاذ بعض الاحتياطات الرقابية المهمة إرضاءً للناصحين قيل أي شيء ، أما هذه الإجراءات الخطيرة فلقد تمثلت فيما فعل وهو يتناول الغداء مع العمال عقب رحيل أبيه بأيام حين رفع بيده رغيف الخبز إلى مستوى جبهته ، وقال لمن حوله بصوته الرفيع الذي تتآكل منه الحروف فيثير ابتسام السامعين : ربنا على من يخون الخبز والملح ! فإذا بالجميع يرددون وراءه "العهد" ..
ويستريح ضميره هو ويتناول طعامه بعد ذلك بشهية عجيبة !
فإذا كنت من دارسي الاقتصاد وعلم إدارة الأعمال ، فلربما تسخر من مثل هذا "الإجراء الرقابي" الخطير الذي اتخذه ، وتتنبأ لتجارته بالبوار المؤكد خلال فترة قصيرة ، ولن يلومك أحد على ذلك إذا فعلت ، لكن كيف يكون ظنك بكل النظريات الاقتصادية والقواعد الإدارية والتجارية المستقرة ، إذا عرفت أن هذا الشاب قد رَبَت تجارته وازدهرت أعماله .. وحقق لنفسه ولأسرته في عشرين سنة ما لم يحقق أبوه التاجر الأريب المحنك الذي لم تكن تفوته فائتة من أعمال التجارة وفن الإدارة .
تسألني كيف حدث ذلك وهو لا يملك القدرة العقلية اللازمة للنجاح ولا يجيد حتى الحساب ، أو اتخاذ القرارات التجارية السليمة ، فأجيبك بأنه هكذا قضى ربك ، ولا معقب على إرادته .. ولحكمة لا تخفى على الأذهان هي أن يراجع أصحاب الحيل أنفسهم ويسلموا له وحده بأنه سبحانه وتعالى من يرزق من يشاء بغير حساب وليس أحدًا سواه ، ولكي يخففوا من غرورهم وغلوائهم واعتزازهم بقدراتهم وعبقريتهم ومالهم ، ويعرفوا أن الفضل لمن منحك وليس لأي شيء آخر ، فإذا كان العمل الناجح يتطلب من الإنسان الكفاح والصبر وإتباع القواعد السليمة للإدارة والعمل ، فكل ذلك صحيح ومطلوب ، لكنه ينبغي بعد أن تفعل كل ذلك أن تؤمن أيضًا بأن هذه هي الأسباب والوسائل التي نتوسل بها لتحقيق أهدافنا في الحياة ، ويبقى بعد ذلك أن ننتظر توفيق الله لنا .. وبغيره لا نحقق لأنفسنا شيئًا ولو جرينا في الدنيا جري الوحوش ، وقصة كل "فورست" مع الحياة هي خير برهان ، وإذا كان هذا الشاب محدود القدرة العقلية ، فلقد كان من عقول وكيله ومساعديه ما يعوض به نقصه ، وإذا كان يرتبك أمام بعض المواقف وقد يتخذ قرارًا خاطئًا حرجًا من الرفض والاعتذار ، فربَّ قرار يبدو لنا الآن خاطئًا .. قد يحقق بعض حين نتائج باهرة .
ولسوف أروي لك نموذجين فقط من قرارات هذا الشاب الطيب التي لامه الجميع عليها ، فلقد زارته أرملة فقيرة تربي أيتامًا صغارًا لترجوه وتلح عليه في الرجاء أن يشتري بيتها الآيل للسقوط الذي تعيش فيه لكي تربي الصغار بثمنه بعد انقطاع كل مورد لهم ، وتؤجر هي وأولادها غرفة رخيصة في بيت آخر ، ولقد لجأت إليه بعد أن رفض كل من عرضت عليهم شراءه ، لأنه شبه متهدم وفي حارة ضيقة كشق الثعبان ومسدودة ولا أمل في حسن استثماره في المستقبل ، فاعتذر الشاب الطيب هو أيضًا عن الشراء وعرض عليها بدلاً من ذلك مساعدة مالية صغيرة ، لكنها بكت واستعطفته فلم يستطع الصمود أمام دموعها واشترى البيت بأعلى سعر قدرته هي وسط اعتراض وكيله وعماله وعتابهم له ، وسخطهم الصاخب على هذه المرأة "الماكرة" التي عرفت كيف تستغل سذاجته وطيبة قلبه .. ووقّع الرجل الأوراق ودفع اثمن وكان بضع مئات ، ثم نسي أمر هذا البيت المهجور ، وانشغل ببيته وتجارته إلى أن "ذكّره" به ذات يوم بعد ست سنوات رجل مهيب جاء يطلب شراءه لأن الحارة الضيقة قد تحولت إلى شارع واسع بعد هدم بيوتها القديمة ولأنه يريد أن يبني عمارة حديثة في موقع هذا البيت المتهدم .. "فيتذكر" البيت القديم ويسأل الرجل عن الثمن الذي يرغب في دفعه ، فإذا به يعرض عليه فيه بضعة عشرات من الألوف ، وإذا بوكيل الشاب الطيب يتدخل في الحديث ويطلب زيادة في السعر ويستجيب المشتري ويربح الشاب ثروة جديدة لم يحسب لها حسابًا من قبل .
أما القرار الآخر الأكثر حظًا ، فلقد اتخذه حين زاره في الوكالة مهندس البلدية ومأمور الشرطة واثنان من أعضاء المجلس البلدي يطلبون منه باعتباره من "سراة" المدينة ، شراء ألف متر في موقع عمراني جديد للمدينة الصغيرة ، وقد أملوا فيه أن يشتري هذه المساحة لكي يشجع خطط تعميرها بعد أن خذلهم معظم تجار المدينة الحصفاء وبرروا رفضهم بأن المدينة جديدة ، ولا تعد بأي مستقبل ، ويجفل الشاب الذي فطر على تهيب الحكومة من أن يرفض هذا الطلب لأنه لا يملك الشجاعة النفسية لذلك ، لكنه يأمل فقط الرأفة بحاله وفي أن يقبل هؤلاء الأشخاص المهمون توسلاته إليهم أن يترفقوا به ويقبلوا مساهمته في مشروع التعمير بشراء مائتي متر فقط ، بدلاً من ألف .
لكن الأشخاص المهمين يتعمدون استغلال حرجه منهم وتهيبه الواضح لهم ويلحون عليه أن يقبل شراء المساحة كلها ، ولسوف يقدرون له كثيرًا هذه المساهمة المشكورة في تعمير المدينة ، ولسوف يشيدون بوطنيته في اجتماع المجلس البلدي القادم ، فلا يجد الرجل مناصًا من القبول حرجًا وحياءً وعجزًا عن المقاومة والرفض ، ويوقع الأوراق وهو حزين ووكيله غاضب .. وأهله ثائرون على ضعفه وخيبته ، ويسدد الثمن بالتقسيط وكلما حلّ موعد سداد قسط تجدد اللوم له والعتاب .. فلا تمضي عشر سنوات فقط حتى تصبح هذه المنطقة الجديدة هي ريفيرا المدينة ، ويرتفع سعر المتر فيها من بضع جنيهات إلى بضع مئات ، وتنهال عليه طلبات الشراء بالأسعار العالية يصبح الرجل مليونيرًا من حيث لم يقصد ، ويلاحقه التوفيق بعد ذلك في كل خطواته وبلا جهد يذكر من جانبه .. ولا فضل له اللهم إلا حسن نيته وسلامة طويته وتواضعه لربه وشكره الدائم له على نعمته ، فإذا كان من أهداف الحكمة الإلهية في رزق من لا حيلة له ، أن يتعجب أصحاب الحيل فلقد حققت الحكمة الإلهية في حالة هذا الرجل هدفًا آخر هو أن "يتعجب" من لا حيلة له نفسه من هذا الرزق المنهمر عليه بلا حساب ، ولقد كان الرجل دائم التعجب بالفعل من توفيق الله له في كل أعماله وخطواته ، دائم الشكر لله على نعمته وعلى فضله ، ولا يدعي لنفسه حصافة ولا عبقرية ولا نبوغًا ، ولقد كان آخر ما عرفت من سيرته أنه قد دأب في سنواته الأخيرة ، وكلما فوجئ بثروة جديدة تهبط عليه من حيث لا يدري ولا يحتسب ، أن يرفع رأسه إلى السماء أمام الجميع ، ويخاطب ربه شاكرًا و"راجيًا" : كفاية كده يا رب .. أعطِ غيري !
فلا يزيده ربه إلا ثراءً على ثراء ، ونعمة على نعمة "وسنجزي الشاكرين" صدق الله العظيم
فما رأيك في قصة فورست المصري هذا وأمثاله ؟
وما رأيك في بعض محدثي النعمة الجدد الذين يصعرون خدودهم للآخرين ويتعالون على الجميع ويمشون في الأرض مرحًا ، ويستشعرون في أنفسهم كبرياءً زائفًا .. وعبقرية موهومة .. وقوة كاذبة .. ولسان حال كل منهم يقول أنه قد حقق لنفسه ما حققه "على علم عنده" .. وليس لأن "الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" وهذا حق وصدق ، ولو كان الجميع من أصحاب الحيل والنبوغ ؟
٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠··٠•●♥ Ƹ̵̡Ӝ̵̨̄Ʒ ♥●•٠·
كتبها
Rofida
Mohamed Ismail
راجعها وأعدها للنشر
Neveen Ali
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home