علاقة المسجد بالجهاد

الحمد لله ما حمده
الذاكرون الأبرار، والصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى آله ما تعاقب ليل
بنهار، وسرى في الأرض حديث السمار أما بعد:
لو عدنا بعجلة
الزمن إلى الوراء حيث بنيت أول دور العبادة على وجه الأرض؛ لتجلى لنا حقيقة لا
ينتطح فيها عنزان أن هذه الدور فيما قبل الإسلام وبعده منوط حمايتها والحفاظ على
استمرار رسالتها بوجود رجال تربوا فيها، ونشأوا في رحابها، ونهلوا من معينها
وعلمها، ورضعوا الحق من لبانها، فجندوا أنفسهم ليكونوا رجال دفاع يقارعون أهل
الباطل ممن ليسوا من أهل هذه الدور الطاهرة النقية التي كانت قبل الإسلام تسمى
بالصوامع، والبيع، والصلوات، وبعد مجيء الإسلام بالمساجد.
هذه المساجد التي
اختصت بأنها يذكر فيها اسم الله كثيراً كما أخبر سبحانه بقوله:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا
وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ
وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}1
باعتبار الضمير يعود إلى أقرب المذكورات كما قاله ابن كثير2.
وجُعلت بيوت الله
المرفوعة على ظهر هذه البسيطة يشتغل المؤمنون فيها بالذكر لله - عز وجل -، وتقديسه
وتنزيهه، وعبادته فيها في الصباح والمساء، لا يشغلهم عن ذلك أي عرض من أعراض
الدنيا يقول سبحانه مبيناً قدسيتها: {فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ
فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ
عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا
تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}3.
هذه
المساجد التي أضافها الله لنفسه يوم قال:
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}4
ارتبطت من أول يوم بالجهاد، بل كانت العلاقة بينها وبينه في غاية من الصلة
والارتباط، حتى كان وجود كل واحد منهما لا يتحقق إلا بوجود الآخر، فلولا وجود
المساجد لما وجد جهاد لإعلاء كلمة الله؛ مقصود به وجه الله؛ يتحقق به النصر
للمؤمنين، وكذا لولا تحقق المؤمنين بالجهاد لما بقى وجود للمساجد، وإعلان العبادة
فيها على الوجه الذي يريده الله - عز وجل -.
ولذلك نجد أن هذه الحقيقة تعبر عنها أول آية أنزلها الله - عز وجل - يأذن فيها
لعباده المؤمنين بالقتال في قوله تعالى:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا
أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا
اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}5،
ذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان
وقتادة ومجاهد والضحاك وغيرهم أن هذه الآية:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ...}
أول آية
نزلت في الجهاد6.
وبيّن ذلك الظلم الذي ظلموا به فقال:
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا
رَبُّنَا اللَّهُ}
قال الطبري: فالذين الثانية رد على الذين الأولى، وعني بالمخرجين من دورهم المؤمنين
الذين أخرجهم كفار قريش من مكة، وكان هذا الإخراج بغير حق لقولهم:
{رَبُّنَا اللَّه }7،
ثم بين الله سبحانه في سياق هذه الآيات العلاقة بين القتال ودور العبادة وفائدة ذلك
بقوله:
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ }
وهي المعابد الصغار للرهبان، {وبيع} وهي: أوسع منها، وأكثر العابدين فيها، وهي
للنصارى أيضاًً، {وصلوات}وهي: كنائس اليهود، {ومساجد} وهي للمسلمين {يُذْكَرُ
فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} والضمير هنا عائد إلى المسجد لأنه أقرب المذكورات.
قال
القرطبي في معنى هذه الآية: لولا ما شرعه الله - تعالى - للأنبياء والمؤمنين من
قتال الأعداء؛ لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بنته أرباب الديانات من مواضيع
العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة.
فالجهاد أمر متقدم، وبه صلحت الشرائع، واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: أذن في القتال
فليقاتل المؤمنون، ثم قوي هذا الأمر في القتال بقوله:
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ}
الآية
أي لولا القتال والجهاد لتُغلب على الحق في كل أمة، فمن استبشع من النصارى
والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه، إذ لولا القتال لما بقى الذي يذب عنه.
وأيضاً هذه التي اتُخذت قبل تحريفهم وتبديلهم، وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما
ذكرت لهذا المعنى، أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى؛
الصوامع والبيع, وفي زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - المساجد8.
وبذلك تظهر حاجة
العقيدة ودور عبادتها إلى الدفاع، وما ذاك إلا أن هذه الدور معرضة للهدم - على
قدسيتها وتخصيصها لعبادة الله -، لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها،
ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين
ينتهكون حرمتها، ويعتدون على أهلها، فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان إلا
أن يدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول.
ولا يكفي الحق أنه
الحق ليقف عدوان الباطل عليه، بل لا بد من قوة تحميه وتدافع عنه، وهي قاعدة كلية لا
تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان9.
والمسجد هو مكان التوجيه إلى الجهاد، والترغيب فيه، والترهيب من القعود عنه، كما
أنه منطلق خروج المجاهدين والعودة إليه، وهو مكان التدريب عليه، والتبصير بأساليبه،
والأخذ بوسائله، كما أن ساحته محضن التربية على المثل، والقيم والأخلاق.
وإذا
استقرأنا السيرة وجدناها تحوي بين طياتها عبقاً تفوح منه العزة، ونستلهم من أريجها
ريح النفير، من تلك المواقف العطرة التي اتخذ منها الحبيب محمد - صلى الله عليه
وسلم - المسجد منبراً لإذكاء روح الجهاد في قلوب أصحابه، ومنطلقاً لإشعال الحماسة
في نفوس أتباعه لتبقى أرواحهم معلقة بالجهاد كلما ناد المنادي - أن يا خيل الله
اركبي -، وسمع دوي الحرب يلامس شغافه آذان المتلهفين لنسيم المعارك، وساحات الوغى.
روى
ابن المبارك في كتابه الجهاد وبسنده إلى الحسن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- بعث جيشاً فيهم عبدالله بن رواحه، فغدا الجيش، وأقام عبد الله بن رواحة ليشهد
الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم
- صلاته قال: يا ابن رواحة ألم تكن في الجيش؟ قال: بلى يا رسول الله، ولكني أحببت
أن أشهد الصلاة معك، وقد علمت منزلهم فأروح وأدركهم، قال:
((والذي
نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت غدوتهم))10.
بل
دعا في منابرها للتدريب على الجهاد، وتعلم أنواع الرماية، وأساليب الحرب كما في
الحديث الذي أخرجه مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول:
(({وَأَعِدُّواْ
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}11
إلا أن القوة الرمي))12.
ونعود على ذي بدء فنقول: إن هذه المساجد قد ارتبط الدفاع عنها بالجهاد والقتال من
أول يوم أذن فيه بذلك، وما ذاك إلا لمكانتها الجهادية، ورمزها العقائدي، ودلالتها
الواضحة على ارتباطها الوثيق عبر القرون الماضية بالجهاد، وأنها لا تنفك عنه، وإذا
استوجب الدفاع عنها من قبل المؤمنين، فهي في الوقت نفسه تخرج المجاهدين المقاتلين
من بين جدرانها، وتؤهلهم لذلك، فتجعل من صاحبها رجل كلما سمع هيعة أو فزعة طار على
إثر ذلك يبتغي الموت مظانه.
وهنا
سؤال جدير بالطرح وهو: إن لم تُحيَ هذه الشعيرة من باحات المسجد وساحاته، إن لم تكن
المنابر هي الوقود الدافع، والمحرك الأعظم للدافع عن حمى الأمة ومقدساتها المسلوبة
والمنهوبة؛ فأي دور أبقته لنفسها، وأي رسالة ارتضتها لعبادها.
نسأل
الله أن يعيد لهذه المنابر رسالتها الربانية، ونسأله أن يجعل من بيوته منطقاً لنصر
الأمة وعزها وتمكينها إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وبارك وسلم
على النذير البشير.
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home