كذلك يضرب الله الحق والباطل
يضرب مثلا للحق والباطل
للدعوة الباقية والدعوة الذاهبة مع الريح
للخير الهاديء والشر المتنفج.
والمثل المضروب هنا مظهر لقوة الله
الواحد القهار
ولتدبير الخالق المدبر المقدر للأشياء
. وهو من جنس المشاهد الطبيعية
التي يمضي في جوها السياق.
" أنزل من السماء ماء، فسالت أودية بقدرها،
فاحتمل السيل زبدا رابيا
: ومما يوقدون عليه في النار
ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله.
كذلك يضرب الله الحق والباطل
. فأما الزبد فيذهب جفاء،
وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
كذلك يضرب الله الأمثال "
إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية،
وهو يلم في طريقه غثاء،
فيطفو على وجهه في صورة الزبد
حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان
. هذا الزبد نافش راب منتفخ .. ولكنه بعد غثاء.
والماء من تحته سارب ساكن هاديء
.. ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة
.. كذلك يقع في المعادن التي تذاب
لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة،
أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص،
فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل.
ولكنه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء ..
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة
فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا
ولكنه بعد زبد أو خبث،
ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا
لا حقيقة ولا تماسك فيه.
والحق يظل هادئا ساكنا.
وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات
ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي
والمعدن الصريح، ينفع الناس.
كذلك يضرب الله الأمثال وكذلك يقرر مصائر الدعوات،
ومصائر الاعتقادات
. ومصائر الأعمال والأقوال
. وهو الله الواحد القهار، المدبر للكون والحياة،
العليم بالظاهر
والباطن والحق والباطل والباقي والزائل.
فمن استجاب لله فله الحسنى
والذين لم يستجيبوا له
يلاقون من الهول
ما يود أحدهم لو ملك
ما في الأرض ومثله معه أن يفتدى به
. وما هو بمفتد،
إنما هو الحساب الذي يسوء،
وإنما هي جهنم لهم مهاد.
ويا لسوء المهاد!
وقد تجلت صورة للحق والباطل
في قصة إبراهيم عليه السلام
حيث نجد جواب قومه
بعد أن جاهد في دعوتهم إلى الله الحق
في قوله تعالى :
" فما كان جواب قومه إلا أن قالوا
: اقتلوه أو حرقوه
. فأنجاه الله من النار
. إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون " . .
اقتلوه أو حرقوه
. . ردا على تلك الدعوة الواضحة البسيطة المرتبة
التي خاطب بها قلوبهم وعقولهم
وإذ أن الطغيان أسفر عن وجهه الكالح؛
ولم يكن إبراهيم - عليه السلام - يملك له دفعا،
ولا يستطيع منه وقاية.
وهو فرد أعزل لا حول له ولا طول.
فهنا تتدخل القدرة سافرة كذلك تتدخل
بالمعجزة الخارقة لمألوف البشر:
" فأنجاه الله من النار " . .
وكان في نجاته من النار
على النحو الخارق الذي تمت به آية
لمن تهيأ قلبه للإيمان
ولكن القوم لم يؤمنوا
على الرغم من هذه الآية الخارقة،
فدل هذا على أن الخوارق لا تهدي القلوب،
إنما هو الاستعداد للهدى والإيمان:
" إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون " . .
الآية الأولى هي تلك النجاة من النار
والآية الثانية هي عجز الطغيان عن إيذاء رجل واحد
يريد الله له النجاة.
والآية الثالثة هي أن الخارقة لا تهدي القلوب الجاحدة
ذلك لمن يريد أن يتدبر تاريخ الدعوات،
وتصريف القلوب، وعوامل الهدى والضلال.
ويمضي في القصة بعد نجاة إبراهيم من النار.
فلقد يئس من إيمان القوم الذين لم تلن قلوبهم
للمعجزة الواضحة.
فإذا هو يجبهم بحقيقة أمرهم،
قبل أن يعتزلهم جميعا:
" وقال: إنما اتخذتم من دون الله
أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا،
ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض،
ويلعن بعضكم بعضا، ومأواكم النار،
وما لكم من ناصرين "
إنه يقول لهم: إنكم اتخذتم الأوثان من دون الله،
لا اعتقادا واقتناعا بأحقية هذه العبادة؛
إنما يجامل بعضكم بعضا،
ويوافق بعضكم بعضا، على هذه العبادة؛
ولا يريد الصاحب أن يترك عبادة
صاحبه - حين يظهر الحق له
- استبقاء لما بينكم من مودة على حساب الحق والعقيدة!
وإن هذا ليقع في الجماعات التي لا تأخذ العقيدة مأخذ الجد،
فيسترضي الصاحب صاحبه على حساب العقيدة؛
ويرى أمرها أهون من أن يخالف عليه صديقه
! وهي الجد كل الجد
. الجد الذي لا يقبل تهاونا
ولا استرخاء ولا استرضاء.
ثم يكشف لهم عن صفحتهم في الآخرة
. فإذا المودة التي يخشون أن يمسوها بالخلاف على
العقيدة، والتي يبقون على عبادة الأوثان محافظة عليه
. . إذا هي يوم القيامة عداء ولعن وانفصام:
" ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا " . .
يوم يتنكر التابعون للمتبوعين،
ويكفر الأولياء بالأولياء
ويتهم كل فريق صاحبه أنه أضله،
ويلعن كل غوي صاحبه الذي أغواه!
ثم لا يجدي ذلك الكفر والتلاعن شيئا،
ولا يدفع عن أحد عذابا:
" ومأواكم النار وما لكم من ناصرين " . .
النار التي أرادوا أن يحرقوه بها،
فنصره الله منها ونجاه
. فأما هم فلا نصرة لهم ولا نجاة!
وانتهت دعوة إبراهيم لقومه،
والمعجزة التي لا شك فيها.
انتهت هذه وتلك بإيمان فرد واحد
غير امرأته هو لوط
ابن أخيه فيما تذكر بعض الروايات
. وهاجر معه من أور الكلدانيين في العراق،
إلى ما وراء الأردن حيث استقر بهما المقام:
" فآمن له لوط،
وقال: إني مهاجر إلى ربي،
إنه هو العزيز الحكيم " . .
ونقف أمام قولة لوط: " إني مهاجر إلى ربي
" . . لنرى فيم هاجر. إنه لم يهاجر للنجاة
. ولم يهاجر إلى أرض أو كسب أو تجارة
. إنما هاجر إلى ربه
. هاجر متقربا له ملتجئا إلى حماه.
هاجر إليه
بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه
. هاجر إليه ليخلص له عبادته
ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه
كله في مهجره
، بعيدا عن موطن الكفر والضلال
. بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم
إلى الهدى والإيمان بحال.
وعوض الله إبراهيم عن وطنه وعن قومه وعن أهله
- عوضه عن هذا كله ذرية تمضي فيها
رسالة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فكل الأنبياء وكل الدعوات بعده
كانت في ذريته وهو
عوض ضخم في الدنيا وفي الآخرة:
" ووهبنا له إسحاق ويعقوب
. وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب.
وآتيناه أجره في الدنيا وإنه
في الآخرة لمن الصالحين " .
وهو فيض من العطاء جزيل،
يتجلى فيه رضوان الله سبحانه
على الرجل الذي يتمثل فيه الخلوص لله بكليته،
والذي أجمع الطغيان على حرقه بالنار،
فكان كل شيء من حوله
بردا وسلاما،
وعطفا وإنعاما.
جزاء وفاقا.
منقول .. بتصرف
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home