لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
النبي الكريم في أدعيته الشريفة كان يجمع بين الثناء والدعاء :
أيها الأخوة: لو قرأنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:
((عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ ))
[صحيح مسلم عن عائشة]
ماذا نفهم؟ نفهم من هذا الدعاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً في أدعيته الشريفة أن يجمع بين الثناء والدعاء:
(( لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ ))
الشيء الثاني هذه الأدعية الشريفة التي دعا بها النبي عليه الصلاة والسلام من السنة أن ندعو بها لأنها من جوامع الكلمة، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلمة، هذه الأدعية لا ينبغي أن تتلفظ بها شفاهنا، ينبغي أن يكون القلب حاضراً حتى في كل الأدعية المأثورة، حتى في الأدعية القرآنية والأدعية التي هي حاسمة في قطع دابر الشيطان:
﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾
[سورة فصلت]
من يحمد الله فهذا الحمد أعظم نعمة أنعم الله بها على الإنسان :
في كل الأدعية ينبغي أن يكون القلب حاضراً ويكون وراء اللسان، ويكون القلب متوجهاً وراء الله عز وجل، لكن كما كنت أقول سابقاً: يمكن أن يغدو الدعاء جزءاً من عاداتنا المألوفة، ففي كل جلسة ولقاء وعقب كل درس وخطبة ندعو الله عز وجل، هذا الدعاء جزء من عاداتنا وتقاليدنا، الدعاء من دون قلب خاشع ومتصل لا يؤتي ثماره إطلاقاً:
((مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إِلَّا كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ ))
[سنن ابن ماجة عن أنس]
ما دمت تقول: الحمد لله ناطقاً بها لسانك، حاضراً بها قلبك، مادمت تقول: الحمد لله وقلبك وراء لسانك والقلب ممتلئ شكراً لله كان الذي أعطى أفضل مما أخذ، كيف؟ الإنسان يتقدم بالسن فتضعف قواه أحياناً، وذاكرته، وأجهزته، ينحني ظهره، ويضعف بصره، لكن الله يعطيه دائماً أفضل بكثير مما أخذه منه، حتى إذا جاء أجله يعطيه الجنة، الحمد يعني أنك في ربح دائم مع الله، فإذا اقتضى العمر أن تتراجع الصحة قليلاً لكنك بالحمد تكسب أشياء لا يعلمها إلا الله، دائماً يعطيك الله عز وجل أفضل مما يأخذه منك، لذلك:
(( مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ))
[سنن ابن ماجة عن أنس]
هناك حديث آخر يدعم هذا المعنى يقول عليه الصلاة والسلام:
(( لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال: الحمد لله لكان الحمد لله أفضل من كل ذلك))
[ القرطبي عن أنس]
لو أنك تملك الشركات العملاقة في العالم التي تساوي ميزانياتها ميزانيات دول مجتمعة، لو أنك تملك حقول النفط في العالم، أو شركات استثمار السيارات في العالم، لو تملك شركات الطيران في العالم كلها، لكانت كلمة الحمد لله أفضل من كل ذلك، لأن الحمد لله باقية معك في قبرك وجنتك، بينما هذه الأموال الطائلة تدعها وتغادر الدنيا، من تحليلات هذا الدعاء أنت حينما تحمد الله يعد هذا الحمد أعظم نعمة أنعم الله بها عليك.
ثواب الحمد لا يفنى :
أنت حينما تعلم أن ما به أنت من نعم هي من الله حصراً فهذا أحد أنواع الشكر، إلهام الحمد أعظم نعمة ينعم الله على عبده في الدنيا، ثواب الحمد لا يفنى، ونعيم الدنيا لا يبقى، لو أنك تملك كل شيء، في الأرض أنت ملك، كل ما في بلادك ملكك، لابد من مغادرة الدنيا! هذا النعيم لا يبقى بينما ثواب الحمد لا يفنى، فأنت إذا حمدت الله معنى ذلك أنك تعرفه، لذلك قال تعالى:
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
[سورة الكهف]
مال من دون بنون مشكلة، وبنون من دون مال مشكلة، كلام جامع مانع:
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
الحمد كاف لتقييد النعمة :
الآن:
﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ ﴾
من بعض معاني هذه الآية: الباقيات الصالحات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، إذا سبحته وحمدته وكبرته ووحدته أن تلهم هذه المعاني معاني التسبيح والحمد والتوحيد والتكبير خير من الدنيا وما فيها، خير من مالها وبنيها:
(( لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال: الحمد لله لكان الحمد لله أفضل من كل ذلك))
[ القرطبي عن أنس]
معنى آخر: الحمد لله مع النعم أفضل من النعم لماذا؟ قال: لأن الحمد كاف لتقييم النعمة مهما كانت كبيرة، الذي يؤتى نعماً كبيرة عنده قلق عميق، يخاف أن تزول هذه النعمة، وبالشكر تدوم النعم، إن أردت أن تقيد هذه النعمة ويكون خطك البياني صاعداً صعوداً مستمراً، إن أردت أن تتمتع بما و أن يهبك الله إياها طوال حياتك، إن أردت ألا يتراجع عنك شيء، إن أردت ألا تسلب نعمك، من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء، ومن عضال الداء، ومن شماتة الأعداء".
إن أردت ألا تسلب منك هذه النعم فقيدها بالحمد، الحمد كاف لتقييد النعمة، وبالشكر تدوم النعم.
الكافر مع النعمة أما المؤمن فمع المنعم :
أخواننا الكرام مرة ثانية: لمجرد أنك ترى أن هذه النعمة من الله، تمشي على قدمين، وترى بعينيك، تسمع بأذنيك، تنطق بلسانك، لك بيت وأهل، هذه نعم الله، فإن شكرت الله عليها فأنت مؤمن، و إن لم تشكره عليها إلا إذا رأيتها فأنت جاهد، لذلك الكافر مع النعمة، أما المؤمن فمع المنعم، الكافر يستمتع بالدنيا ويتمتع بها ويأكل....
﴿ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾
[سورة محمد]
الكافر يستمتع، بل ربما كان لكفره ولغناه أشد استمتاعاً بالنعمة من المؤمن، لكنه يبقى مع النعمة كالبهيمة تماماً، يأكل ويشرب ويتمتع كما تتمتع الأنعام:
﴿وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾
بينما المؤمن مع المنعم لا مع النعمة.
معرفة أسماء الله الحسنى طريق لابد للإنسان من سلوكه ليشكر الله :
لكن أخطر فكرة تقال في الثناء مع الدعاء أنت لا يمكن أن تشكر من لا تعرفه! وهذا الإله العظيم لا يكفي أن تردد كما تعلمت، وأن تقول: الله خالق السماوات والأرض، لابد من أن تعرفه، لو أن جسمك مركب تركيب آخر لأصبحت حياة الإنسان جحيماً لا يطاق.
إنسان قد يعيش في أجواء باردة، وهذا البرد قد يسبب تجمد ماء العين وفقد البصر، من أودع في كل عين مادة مضادة للتجمد؟ أنت حينما تتفكر في خلق الله عز وجل، وتتفكر في طعامك الذي بين يديك، هذه التفاحة التي تأكلها من جعلها لذيذة الطعم؟ لو أنها نافعة لكنها مرة، من جعلها بقوام يتناسب مع أسنانك؟ من جعلها بحجم يتناسب مع فمك؟ من جعلها بلون تشتهيه الأعين؟ من جعلها بنكهة تستطيبها الأنفس؟ من؟ أنت حينما تفكر بخلق السماوات والأرض تشكره على نعمه المديدة، أنت لا تشكر من لا تعرف، لابد من أن تعرف حتى تشكر.
لذلك معرفة أسماء الله الحسنى طريق لابد من سلوكه من أجل أن تشكر الله، ينبغي أن يكون لك وقفات ووقفات في أسماء الله الحسنى، في اسم المنعم المعطي المانع، الرافع الخافض، المعز المذل... ما لم تكن على اطلاع على أسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى كيف تشكره؟
المؤمن يذكر الله و يحمده على كل شيء :
الشيء المألوف مألوف! والناس حياله كالبهائم، المؤمن يذكره ويحمد الله عليه، من منا على وجه الأرض لا يألف الليل والنهار؟ شيء طبيعي، ستة آلاف مليون يتحركون وفق الليل والنهار، ينام يستيقظ الشمس ساطعة، تغيب يذهب لبيته يأكل وينام، يقول الله عز وجل:
﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾
[سورة الأنعام]
لو كان النهار مئة ساعة، وطاقتك ثماني ساعات، تعمل وتنام، فلان ينام ثم يعمل، ضجيج دائم، أما الله عز وجل فجعل طول النهار يتناسب مع طاقة الإنسان، ففي الساعة الثانية ليلاً كل الخلق نائمون، والطرقات فارغة، والضجيج منعدم، والسكون والهدوء متوفران، و بهذا تتناسب طاقتك الإنتاجية مع طول الليل والنهار:
﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾
كم إنسان بالأرض يمر عليه الليل والنهار كالبهيمة؟ المؤمن صاح، يوجد ليل يسكن فيه، يأوي لبيته، يجلس مع أهله يذكر ربه، ويوجد نهار يعمل فيه، أما المؤمن فينتبه لهذه النعمة....
العاقل من ينظر إلى طعامه و يتفكر فيه :
أرض من الطين في الربيع تنبت ما لذ وطاب من أنواع الأزهار والفواكه والخضراوات، وشجرة كخشب يابس، إذاً هي ترتدي حلّة بيضاء ثم حلة خضراء، ثم تعقد الثمار، ثم فيها ثمار شهية، هذه الأشياء البديهية التي نتأمل بها ولا نرى منها شيئاً لغفلتنا عن الله عز وجل، رأيت شجرة أحياناً لا تثمر لكنها مظلة، من صممها لتكون مظلة؟ الآية الكريمة:
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
[سورة الأنعام الآية :99]
النبات طعام، قوت أساسي، والنبات فاكهة ودواء وأثاث، أشجار الخشب نصنع منه أثاث بيوتنا، والنبات دواء، وصباغ، ومطاط، وفلين، وأثاث، وأشجار جميلة، وزينة، لو ذهبتَ لتعدد أنواع النبات لما انتهيت من وظائفه.
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا ﴾
انظر إلى الرمان كيف أن هذه الحبات متراكبة، من أين جاءها الطعم الحلو؟ كيف تغذت؟ عن طريق شعريات دقيقة، ينبغي أن تنظر إلى طعامك وتتفكر فيه، هذا الحليب من يسّر لهذه البقرة أن تصنعه من الدم؟
﴿ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ ﴾
[سورة النحل]
منه السمون، والأجبان، والألبان، وكل أنواع المأكولات الأولى في حياتنا.
العاقل من ينظر إلى طعامه و يتفكر فيه :
ما من نبات إلا وله علامة نضج :
﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾
[سورة الأنعام]
التمرة فيها ست وأربعون مادة غذائية، صيدلية، بيت لا تمر فيه جياع أهله، قابضة وملينة ومهدئة وسكرها أبسط سكر في حياة الإنسان من الفم إلى الدم في عشر دقائق:
﴿ وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ﴾
ادخل لحقل بندورة كل الحقل أخضر إلا حبات حمراء، كأنها تقول: أنا نضجت من أجلك تعال اقطفني، الله جعل علامات، فكل فاكهة وكل إنتاج له علامة نضج، العنب يسود، الحب يشتد، ما من نبات إلا وله علامة نضج.
﴿ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾
هذه النباتات التي هي خضراوات تنضج على ثلاثة أشهر، أما التي هي محاصيل للتخزين فتنضج في يوم واحد، هل انتبهتم إلى هذا؟ البطيخ ينضج على ثلاثة أشهر، أي في تسعين يوماً، خضراوات الصيف والفواكه تنضج في أزمنة متباعدة، بينما المحاصيل كالقمح والشعير والعدس في يوم واحد تجنى وتخزن، من صمم ذلك؟ لا يمكن أن تشكره إلا إذا عرفته، أنت لا تشكر من تجهل، لابد من أن تتأمل في خلق السماوات والأرض، لابد من أن تنظر في طعامك.
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾
[سورة عبس]
من عرف الله من خلال آياته ذابت نفسه شكراً له
أيها الأخوة: ملخص هذا الدرس أن الدعاء كان عليه الصلاة والسلام يقرنه بالثناء، والثناء هو الحمد، والحمد يقيد النعمة مهما تكن عظيمة يقيدها، إن أردت تقييد النعم فاشكر الله عليها، والحمد نعمة لا تفنى بين نعم الدنيا، نعم الدنيا لا تبقى، فالذي يحمد الله عز وجل يأتيه من الله كل خير، ولكن لن تستطيع أن تحمده إلا إذا عرفته، ومعرفته من خلال هذا الكون، والآيات التي تدعونا إلى معرفته من خلال الكون لا تعد ولا تحصى.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home