كيف نصل لشكل متوازن في العلاقة مع الاستثمار الأجنبي بحيث يحقق المصلحة الوطنية المصرية وفي نفس الوقت يحقق مكاسب للمستثمر لجذب الاستثمارات الجادة؟
«المركزي:» ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر بمصر لـ4.1 مليارات دولار :
موقع الشروق الخميس 25 سبتمبر 2014 - 8:35 م
أعلن البنك المركزي المصري، ارتفاع صافي التدفق للداخل للاستثمار الأجنبي المباشر بمصر ليصل إلى 4.1 مليارات دولار خلال العام المالي 2013 – 2014، مقابل 3.8 مليار دولار.
وتسعى الحكومة المصرية، خلال العام المالي 2014-20145 إلى زيادة معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى ١٠ مليارات دولار، حسبما أعلن وزير الاستثمار أشرف سالمان.
وقال المركزي المصري، في بيان السبت: إن "هذا الارتفاع جاء نتيجة لارتفاع صافي التدفق الاستثماري في قطاع البترول ليحقق نحو 1.6 مليار دولار مقابل مليار".
وأشار التقرير المصرفي إلى أن صافي التدفق للداخل للاستثمارات الواردة لتأسيس شركات أو زيادة رءوس أموالها تراجع 6.7% لبيلغ 2.2 مليار دولار مقابل 2.4 مليار.
وأبدت شركات عالمية تستمر في مصر ارتياحًا حيال التطورات الاقتصادية التي تشهدها البلاد حاليًّا وأعلن العديد منها عن توسعات استثمارية.
وتأمل مصر خلال العام المالي 2014-2015 تحقيق معدل نمو 3.5٪ مقابل 2.1٪ في العام السابق له، فضلا عن خفض نسبة الفقر والبطالة، مما يتطلب تحقيق معدل نمو يزيد على نسبة النمو السكان التي تبلغ 2.4٪.
********
خريطة الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر: نظرة جغرافية قطاعية
ملخص تنفيذي:
كان ولا يزال قطاع البترول والمنتجات البترولية متسيدًا على عرش الاستثمارات الأجنبية لفترة تحكمه قوانينه وعقوده الخاصة؛ حمل هذا الوضع للحكومات المصرية المتتابعة ارتكانًا لتدفقات أمواله وتباطؤًا عن تطوير خريطة الاستثمارات الخارجية للدولة.
تبرز الخريطة الاستثمارية الجغرافية والقطاعية تركزًا شديدًا ينبني على تحمله لمصر رياح التغيرات الدولية ولا تبرز منها رؤية كاملة حول الوضع أو الاحتياجات أو الانعكاسات على الشعب تشغيلًا وعائدًا أو الانعكاسات على السياسة الخارجية المصرية عربيًّا وإفريقيًّا وعالميًّا.
فقد جاءت خريطة الاستثمارات المصرية متمركزة في فترة ما قبل الثورة حول الشريك الأوروبي وفي فترة ما بعد الثورة شهدت محاولات محدودة لتوسيع الدائرة الاستثمارية ولكنها تنتهي في نقطة التفاوض أحادي الطرف ذي الشريك الأوحد (القطري) أو الشركاء المحدودين.
ويعكس نمط التعامل القانوني المشكلة ذاتها فالقوانين بها العديد من الأحكام التي تعتبر مشجعة للاستثمار الأجنبي ولا تميز بين المستثمر المحلي والأجنبي، إلا أنه يعيب هذه القوانين أنها تبدو معنية بجذب الاستثمار الأجنبي من دون أن تكون معنية بطبيعة النشاط الذي سيمارسه وما إذا كان نشاطًا سيساهم في تحقيق تنمية حقيقية أم لا. فالقوانين قائمة على فلسفة أن جذب الاستثمار الأجنبي هو هدف وغاية في ذاته ولا أدل على ذلك من أن القوانين – كما لا تميز بين المستثمر صاحب النشاط الإنتاجي ذو العمالة الكثيفة (مثل التصنيع) أو المستثمر صاحب النشاط الاستهلاكي (مثل مطاعم المأكولات والمشروبات).
تلك القوانين قائمة على فرضيات اقتصادية مفادها أن جذب الاستثمار الأجنبي في حد ذاته كفيل بتحقيق تنمية حقيقية والمساهمة في القضاء على البطالة والفقر. والحقيقة أن هذه الفرضيات ثبت عدم صحتها، فقد ارتفعت معدلات الاستثمار الأجنبي في السنوات الأخيرة من عمر نظام مبارك ولم يترتب على ذلك تحسن في الأحوال المعيشية لقطاعات كبيرة من المواطنين. فوفقًا للتقرير المصري للاستثمار الذي أصدره مجلس أمناء الهيئة العامة للاستثمار عام 2008[1] ”شهد الاقتصاد المصري نموًّا ملحوظًا في قدرته على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة منذ بداية إصلاح مناخ الاستثمار عام 2004″ وذهب التقرير إلى أن ” زيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر حقق طفرة غير مسبوقة خاصة عام 2006/2007 حيث بلغت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 9% حيث بلغ 11.1 مليار دولار”، وعلى الرغم من ذلك يذهب التقرير إلى أن “تقديرات الفقر سجلت ارتفاعًا طفيفًا خلال العقد الماضي” ويعزو ذلك لمصادر النمو؛ حيث تحقق النمو في القطاعات الأقل تشغيلًا ومن ثم لم ينتج عنه زيادة كافية في فرص العمل المتاحة. فالاستثمار الأجنبي لن يساهم بشكل جاد في القضاء على البطالة إلا إذا تم توجيه هذا الاستثمار إلى قطاعات كثيفة العمالة. ويحظى قطاع البترول في مصر بأعلى نسبة استثمار أجنبي إلا أنه من القطاعات التي لا تحتاج لأيدي عاملة كثيرة وبالتالي فإن كثافة التشغيل فيه محدودة.[2] وبالمقابل يعتبر قطاع الصناعة والتعدين هو القطاع الرائد من حيث كثافة العمالة.[3]
إن تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة لمصر يقدم حلًّا لمشكلات نضوب موارد النقد الأجنبي وتفاقم البطالة في مصر في الوقت الحالي؛ ولكن استمرار السعي وراء الاستثمار باعتباره غاية في ذاته لن يحمل حلولًا سوى لمشكلات النقد الأجنبي، والتي لن تكون سوى تدفقات قصيرة الأجل سرعان ما تطاردها الاضطرابات المحلية في فترة من أقسى فترات مصر تاريخيًّا.
ومن ثم يرسي التقرير توصياته في أهمية مراجعة منظومة الاستثمار الأجنبي المباشر لتكون أكثر تنوعًا وأكثر تشغيلًا وأكثر ميلًا للابتكار خاصةً ذو الطبيعة المحلية.
المقدمة:
ساهمت الخبرة التاريخية المصرية مع الاستثمار الأجنبي في خلق وعي جمعي مصري ينظر للاستثمار الأجنبي بقدر من الريبة والتشكك. فقد ارتبط نمو الاستثمار الأجنبي في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بفكرة تبعية مصر للغرب والانتقاص من السيادة المصرية.
أهمية مراجعة منظومة الاستثمار الأجنبي المباشر لتكون أكثر تنوعًا وأكثر تشغيلًا وأكثر ميلًا للابتكار ولا سيما ذو الطبيعة المحلية
وحصل الاستثمار الأجنبي في مصر على ما عرف تاريخيًّا باسم الامتيازات الأجنبية والتي كرست لمعاملة تفضيلية للأجانب عبرت بحق عن انتقاص من السيادة المصرية، ومن أمثلتها إنشاء المحاكم القنصلية والمحاكم المختلطة التي كانت تسمح للأجانب بتطبيق قوانينهم الخاصة ومن خلال قضاة أجانب على تعاملاتهم في مصر. وانتهى الأمر بالاحتلال البريطاني لمصر الذي اتخذ حماية المصالح الأجنبية في مصر كأحد الذرائع لتبرير وجوده.
لذلك بدا طبيعيًّا في هذا السياق التاريخي أن يتخذ النظام السياسي الذي قام مع اقتراب نهاية الاحتلال البريطاني لمصر (نظام ثورة يوليو في فترة حكم عبد الناصر) موقفًا سلبيًّا من الاستثمار الأجنبي وأن يضع على رأس أولوياته إنشاء نظام اقتصادي وطني مستقل بعيد عن النفوذ الأجنبي. وفي إطار هذا صدرت قوانين التأميم التي نقلت ملكية العديد من المشروعات المملوكة لأجانب إلى الدولة المصرية .
ثم جاء نظام السادات ليتخذ في منتصف السبعينات منحى مختلفًا عرف باسم الانفتاح الاقتصادي والذي تجلى في إصدار العديد من القوانين على رأسها قانون نظام استثمار المال العربي والأجنبي رقم 43 لسنة 1974 والذي سمح بعودة الاستثمار الأجنبي إلى مصر.
وسار نظام مبارك إلى حد بعيد على نهج سلفه السادات مع انفتاح أكبر على الاستثمار الأجنبي وصل إلى ذروته ببرنامج الخصخصة في تسعينيات القرن الماضي والذي بموجبه تم بيع حصة الدولة في العديد من الشركات المملوكة لها إلى مستثمرين أجانب.
كيف نصل لشكل متوازن في العلاقة مع الاستثمار الأجنبي بحيث يحقق المصلحة الوطنية المصرية وفي نفس الوقت يحقق مكاسب للمستثمر لجذب الاستثمارات الجادة؟
ورغم ارتفاع معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر في السنوات الأخيرة من عمر نظام مبارك على النحو الموضح بهذه الورقة، إلا أن هذا لم يترتب عليه تحسن في الوضع الاقتصادي للغالبية العظمى من الشعب المصري، بل لقد ارتفعت نسبة السكان تحت خط الفقر من 16.5% في عام 2000 إلى حوالي 21% في عام 2007/ 2008 ثم إلى 25% في عام 2011.
واندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير لتطيح بنظام مبارك وتضع على رأس مطالبها تحقيق العدالة الاجتماعية.
وما بين تجربة الامتيازات الأجنبية، ثم التأميم، ثم الانفتاح، فالخصخصة، يبدو أننا في مصر لم نستطع حتى الآن الوصول لإجابة عن هذا السؤال:
كيف نصل لشكل متوازن في العلاقة مع الاستثمار الأجنبي يحقق المصلحة الوطنية المصرية وفي نفس الوقت يحقق مكاسب للمستثمر لجذب الاستثمارات الجادة؟
وتبدو هذه اللحظة التاريخية -ومصر من المفترض أنها على أعتاب بناء نظام اقتصادي جديد بالتوازي مع بناء النظام السياسي- لحظة مثالية لطرح هذا السؤال، والأهم…. محاولة الإجابة عنه.
تحاول الورقة الإجابة عن هذا التساؤل وذلك من خلال مراجعة الإطار القانوني لعمل الاستثمار الأجنبي المباشر ثم مراجعة التطور الجغرافي للاستثمارات الأجنبية وتأثيراتها الخارجية، وأخيرًا تأثير الاستثمار الخارجي وتطوره قطاعيًّا وجغرافيًّا على الفقر والبطالة والاستثمار المحلي في مصر في محاولة للوصول لطبيعة علاقة متوازنة مع المستثمر الأجنبي.
أولًا: التطور الجغرافي: من يستثمر في مصر؟
إن التطور الجغرافي للاستثمارات الخارجية في مصر يحمل في طياته انعكاسات لتطور وضع العلاقات الخارجية المصرية، فيلاحظ قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير مباشرةً تركيز مصر الواضح على اجتذاب الاستثمارات الأوروبية في إطار اتفاقية الشراكة المصرية الأوروبية والاتفاقية الأورومتوسطية مع تراجع مستمر في الاستثمارات العربية.
وفي العام التالي للثورة مباشرةً بدأ تدفق طفيف يعكس تزايد الاستثمارات العربية في مصر، مع الاحتفاظ بالنموذج ذاته المتمثل في التركيز على الاستثمارات الأوروبية التي مثلث 9.5 مليار دولار في نهاية العام المالي 2011/ 2012 جاء نحو ثلثها من خلال البنك الأوروبي للتنمية.
وظل الاتحاد الأوروبي يتصدر مشهد التدفقات الأجنبية في مصر قبل الثورة حتى مع تراجع التدفقات مع الأزمة المالية العالمية، لتواجه مصر بشكل مباشر بعد الثورة صورة جديدة من العلاقات الخارجية التي حسمت وضع الاستثمارات في مصر بين فكي الأزمة المالية العالمية والقلق العربي من تصدير الثورة المصرية؛ فبعد الثورة المصرية في 2011 كان موقف دول الخليج متذبذبًا لما قد تحمله من رياح لتغيير الحكومات والممالك الخليجية وتم اتخاذ بعض الإجراءات التي من شأنها حجب رياح التغيير كالتضييق على العمالة المصرية أو وقف إعطاء تأشيرات الدخول لبعض الوقت للمصريين خاصة.
بعد الثورة مباشرةً انقسمت دول الخليج إلى فريقين في التعامل مع الثورة المصرية: الفريق الأول منعته مخاوف تصدير ثورات الربيع العربي لشعوبهم عن التعاون الاقتصادي؛ وهو الفريق الذي ضم المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة واكتفي بإعطاء مصر بعض الحزم الاقتصادية المحدودة للمساعدة كحزمة مساعدات الإمارات العربية المتحدة التي تقدر بـ 3 مليار دولار، والدعم السعودي المالي الذي لم تتعد قيمته 430 مليون دولار إلا أن هذه النظرة بدأت في التغير بشكل طفيف مؤخرًا مع توسع محدود في الاستثمارات العربية المباشرة في مصر.
أما الفريق الثاني المتمثل في قطر فقد اختار مساندة الثورة منذ بدايتها خاصةً على المستوى الإعلامي وهي الثورة التي حملت وصول الإخوان المسلمين للحكم وهم حلفاء قطر في المنطقة، ولم تحمل أية مخاطر على الحكم في قطر؛ وبعد استقرار الأوضاع قررت قطر التوسع الاستثماري ومنح الأموال لمصر في المشروعات التي تتواءم مع طموحاتها المالية والسياسية؛ بالإضافة لمساعدة الحكومة المصرية بإعانات -تضاعفت من 2.5 مليار دولار إلى 5 مليارات دولار- وحزم مالية. وهو ما تحتاجه مصر من ناحية حتى لا ينهار اقتصادها.
و إجمالًا يلاحظ من تطور التوزيع الجغرافي للاستثمارات في مصر استمرار تجاهل الاستثمار الإفريقي وبقاء النظرة المصرية للاستثمار الخارجي داخل النمط الفكري الذي نظم العلاقات الاستثمارية السابقة للثورة وهو ما يطلق عليه “الاستثمار السهل”. وهو الاستثمار الأقرب والأيسر للسلطة وليس الاستثمار القائم على نظرة عالمية متكاملة.
ثانيًا: التطور القطاعي: ماذا يستثمر في مصر؟
من الممكن تصنيف الدوافع وراء الاستثمارات الأجنبية الوافدة لمصر إلى:
- أولًا: الاستثمار الباحث عن الأسواق، ويهدف هذا النوع من الاستثمار إلى خدمة السوق المحلي للدولة المضيفة للتقليل من بعض تكاليف النقل والرسوم الجمركية، والذي يعد بديلًا للعمليات التصديرية من قبل الشركة الأم والبلدان المضيفة. كما يسمى هذا النوع “بالاستثمار الأجنبي المباشر الأفقي” حيث تقوم الشركة الأم بإنشاء وحدات إنتاجية تابعة في البلد المضيف لإنتاج نفس السلع والخدمات المنتجة التي تنتج في المقر الرئيس للشركة الأم. ونجد أن هذا النوع من الاستثمارات قد انتشر بشدة في الآونة الأخيرة في معظم الدول النامية بسبب صعوبة فتح أسواق جديدة في الدول المتقدمة التي أصبح الدخول فيها بالغ الصعوبة حيث انخفض معدل الاستهلاك بها لصالح معدل الادخار، ويجدر بنا الإشارة إلى أن معدل الاستهلاك في مصر في الأعوام السابقة قد شهد ارتفاعًا مقابل معدل الادخار مما جعلها سوقًا ممتازًا لهذا النوع من الاستثما
ثانيًا: الاستثمار الباحث عن المصادر الطبيعية، والذي يسعى إلى الحصول على الموارد الطبيعية الرخيصة التي لا تتوفر في دولة الأم للشركة، ومن ثم يسعى لاستغلال الميزة النسبية للدولة المضيفة. ومن أبرز الأمثلة على هذا النوع الاستثمارات في قطاع البترول والصناعات الاستخراجية بوجه عام.
وإذا نظرنا إلى التوزيع القطاعي للاستثمارات الأجنبية المباشر قبل عام من اندلاع الثورة (عام 2009/2010) سنجد أنها تتركز في قطاع البترول يليه قطاع التمويل بنسبة لم تتعد 5% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية الوافدة في مصر. بينما تأتي الاستثمارات في بقية القطاعات ضئيلة للغاية لا تعكس خطة واضحة لاجتذاب المستثمر الأجنبي بأهداف تنموية.
واستمر الاقتصاد المصري في عام الثورة متلقيًّا لطبيعة الاستثمارات التي تلقيها الظروف العالمية حيث انخفضت بصورة ملحوظة نصيب الاستثمارات في قطاع التمويل إثر أزمة تصاعد عوامل عدم الأمان.
صدر: الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة
- ثالثًا: الاستثمار الباحث عن الكفاءة، حيث تسعى الشركات الأجنبية من ورائه لزيادة كفاءتها الإنتاجية عن طريق تحويل جزء من خطوط الإنتاج لدول مضيفة تتمتع بميزة نسبية في تكاليف الإنتاج «الخامات، قوى العمل، والمنتجات الأولية الرخيصة». كما يطلق على هذا النوع “الاستثمار الرأسي” حيث تقوم الشركة الأم بتوزيع خطوط أو مراحل عملية الإنتاج على دول مضيفة مختلفة. وأشهر مثال على ذلك ما تقوم به شركة جنرال موتورز بتصنيع مكونات وأجزاء من سياراتها في دول مختلفة، ثم نقل هذه الأجزاء إلى المصانع الرئيسة في ولاية مشجن الأمريكية لتجميعها كمنتج نهائي. لذا يعتبر هذا النوع من الاستثمار الأجنبي مكملًا للتبادل التجاري بين بلد الأم وبلد المضيف؛ ولا زال هذا النوع محدودًا في هذا المجال.
ثالثًا: كيف يستثمر الخارج في مصر؟
ويعكس هذا الجزء نظرة في الإطار القانوني للتعامل مع الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر وآثاره على طبيعة تأثير الاستثمار المحلي على بعض الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية وتأثره بها.
الإطار القانوني: مراجعة وانتقادات:
القوانين:
ينظم الاستثمار في مصر الآن عدد من القوانين على رأسها:
- قانون الشركات رقم 159 لسنة 1981 الذي ينظم أنواع شركات الأموال التي يمكن للمستثمر تأسيسها في مصر والأحكام الخاصة بتأسيس وإدارة كل نوع من الشركات.
- قانون الاستثمار رقم 8 لسنة 1997 والذي يحدد ضمانات حماية الاستثمار في مصر والحوافز لتشجيع الاستثمار.
- قانون سوق رأس المال رقم 95 لسنة 1995 والذي ينظم أنشطة سوق المال والبورصة ويحكم الشركات التي تعمل في هذا المجال.
ووفقًا للقوانين المنظمة للاستثمار، أمام المستثمر الأجنبي طريقان رئيسان لممارسة نشاطه في مصر. الأول تأسيس شركة مصرية يكون هو المساهم الرئيس فيها، أو تأسيس فرع لشركته في مصر. ومن الناحية العملية يتخذ أغلب الاستثمار الأجنبي في مصر الشكل الأول أي شركة مصرية برأس مال مملوك أسهمه للمستثمر الأجنبي وشركات أخرى تابعة أو شقيقة، وذلك لأن إجراءات تأسيس الشركات في مصر أبسط من إجراءات تأسيس فرع لشركة أجنبية.
ومن أهم ملامح القوانين المصرية الحاكمة للاستثمار ما يلي:
1- أنها بشكل عام لا تميز بين الاستثمار الوطني أو الاستثمار الأجنبي وذلك على النحو التالي:
أ. باستثناء بعض الأنشطة المحدودة التي تشترط أن يكون رأس مال الشركة مملوكًا بالكامل لمساهمين مصريين، مثل نشاط الوكالة التجارية ونشاط الاستيراد[8]، يمكن للمستثمر الأجنبي تأسيس شركة أموال للعمل في أي نشاط تجاري ودون اشتراط وجود نسبة من رأس المال مملوكة لمصريين. ويعتبر هذا تشجيعًا للاستثمار الأجنبي مقارنة بدول أخرى مثل بعض دول الخليج العربي (مثل دولة الإمارات) التي مازالت تشترط ملكية وطنية بنسبة 51% من رأس مال أي شركة تؤسس على أرضها باستثناء الشركات المؤسسة في المناطق الحرة التي يمكن أن تكون مملوكة بالكامل لأجانب.
ب. باستثناء سيناء وبعض المناطق الحدودية، لا توجد قيود على تملك الشركات لعقارات أو أراض بصرف النظر عن جنسية مساهميها طالما كانت هذه العقارات لازمة لمباشرة نشاط الشركة[9].
ج. لا توجد امتيازات خاصة للاستثمار الأجنبي، فحوافز وضمانات الاستثمار المنصوص عليها في القوانين تتمتع بها الشركات بصرف النظر عن جنسية شركائها.
2- لا توجد قيود قانونية على قيام المستثمر بتحويل نصيبه في أرباح شركته إلى خارج مصر طالما تمت عملية التحويل من خلال البنوك المعتمدة في مصر[10]. ولا تشترط قوانين الاستثمار أن يعيد المستثمر استثمار جزء من هذه الأرباح داخل مصر.
3- لا تعطي القوانين السارية حاليًّا أي حوافز خاصة للمستثمر إذا مارس نشاطه في مجال معين. بمعنى أنه لا يوجد تمييز بين المستثمر صاحب النشاط الإنتاجي (مثل التصنيع) أو المستثمر صاحب النشاط الاستهلاكي (مثل المأكولات والمشروبات). فالكل يخضع مثلًا لنفس المعاملة الضريبية.
4- يمنع قانون الاستثمار رقم 8 لسنة 1997 تأميم الشركات أو مصادرتها[11].
5- يمنع قانون الاستثمار تدخل أية جهة إدارية في تسعير منتجات الشركات أو تحديد ربحها[12].
الهيئات المنظمة للاستثمار:
ينظم الاستثمار في مصر عدد من الهيئات الحكومية على رأسها وزارة الاستثمار[13]، والهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة التي تتولى الإشراف على الشركات[14]، وهيئة الرقابة المالية التي تتولى الإشراف والرقابة على الشركات العاملة في مجال سوق المال والتأمين[15] .
- 2. هل تغيرت هذه المنظومة القانونية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير؟
القوانين:
لم تحدث أي تعديلات جوهرية تذكر على القوانين المنظمة للاستثمار منذ قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير باستثناء تعديلات خاصة بزيادة الضرائب على النحو التالي:
1- زيادة الضرائب على الشركات التي تتجاوز أرباحها السنوية عشرة ملايين جنيه لتصبح 25% من صافي الأرباح بدلًا من 20% وذلك بموجب تعديل على قانون الضريبة على الدخل نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ28 يونيو 2011[16].
2- التعديلات على قوانين الضرائب التي أصدرها رئيس الجمهورية في أثناء تمتعه بسلطة التشريع بتاريخ 6 ديسمبر 2012 والتي نشرت في الجريدة الرسمية في نفس اليوم. ورغم الإعلان عن تعليق العمل بهذه التعديلات ، إلا أنه من الناحية القانونية مازالت هذه التعديلات سارية لنشرها في الجريدة الرسمية والنص على العمل بها اعتبارًا من اليوم التالي لتاريخ النشر مع عدم نشر أي قوانين لاحقة تفيد وقف العمل بهذه التعديلات. ولا شك أن هذا الوضع متسبب الآن في الكثير من التخبط والبلبلة في السوق المصري لعدم وضوح الموقف الضريبي للأنشطة التي تناولتها هذه التعديلات. ومن أهم الأحكام التي جاءت في هذه التعديلات المرتبطة بالاستثمار المباشر:
أ- زيادة الضرائب لتصبح 25% من صافي الأرباح بدلًا من 20%[17].
ب- فرض ضريبة جديدة بنسبة 10% على الأرباح المحققة نتيجة بيع أسهم الشركات إذا ما كان البيع لأكثر من 33% من أسهم الشركة[18].
الهيئات المنظمة للاستثمار:
لم تحدث تغيرات جذرية في هيكل الهيئات المتعاملة مع المستثمرين ولكن يلاحظ وجود صعوبة في قيام مسؤولي هذه الهيئات وموظفيها بعد الثورة باتخاذ قرارات لتسيير أعمال المستثمرين. ويرجع ذلك إلى قلق الموظفين من اتخاذ أي قرارات قد يترتب عليها بعد ذلك مسؤوليات إدارية أو جنائية عليهم خاصة في ظل وجود العديد من القضايا التي يحاكم فيها مسؤولو النظام السابق.
الاتجاهات القضائية بعد الثورة:
ظهر اتجاه في القضاء المصري بعد الثورة للحكم ببطلان عدد من العقود التي أبرمها النظام السابق مع المستثمرين وإن كان لهذا الاتجاه بوادره قبل الثورة. وانصبت أغلب هذه الأحكام على عقود لخصخصة شركات القطاع العام. فحكم مجلس الدولة ببطلان عقود بيع أسهم شركات المراجل البخارية ومصر شبين للغزل وطنطا للكتان[19]. كما حكم القضاء العادي ببطلان عقد بيع أسهم شركة أسمنت أسيوط[20]. واستندت أغلب هذه الأحكام في أسبابها إلى وجود شبهة فساد شابت عملية البيع وغياب الشفافية عنها.
ولا شك أن صدور مثل هذه الأحكام له تأثير سلبي في مناخ الاستثمار في مصر مما يفرض على صانع القرار والمشرع العمل على وضع منظومة قانونية فعالة لمكافحة الفساد ولتحقيق الشفافية ولتفعيل سيادة القانون.
- 3. أهم مشكلات هذه المنظومة القانونية:
ونطرح هنا عدة ملاحظات على المنظومة القانونية الحاكمة للاستثمار الأجنبي:
1- القوانين فيها حقيقة العديد من الأحكام التي تعتبر مشجعة للاستثمار الأجنبي على النحو الموضح سابقًا، إلا أنه يعيب هذه القوانين أنها تبدو معنية بجذب الاستثمار الأجنبي من دون أن تكون معنية بطبيعة النشاط الذي سيمارسه، وما إذا كان نشاطًا سيساهم في تحقيق تنمية حقيقية أم لا. فالقوانين قائمة على فلسفة أن جذب الاستثمار الأجنبي هو هدف وغاية في ذاته، ولا أدل على ذلك من أن القوانين – كما أوضحنا سابقًا- لا تميز بين المستثمر صاحب النشاط الإنتاجي ذي العمالة الكثيفة (مثل التصنيع) أو المستثمر صاحب النشاط الاستهلاكي (مثل مطاعم المأكولات والمشروبات).
2- القوانين قائمة على فرضيات اقتصادية مفادها أن جذب الاستثمار الأجنبي في حد ذاته كفيل بتحقيق تنمية حقيقية والمساهمة في القضاء على البطالة والفقر. والحقيقة أن هذه الفرضيات ثبت عدم صحتها. فقد ارتفعت معدلات الاستثمار الأجنبي في السنوات الأخيرة من نظام مبارك ولم يترتب على ذلك تحسن في الأحوال المعيشية لقطاعات كبيرة من المواطنين. فالاستثمار الأجنبي لن يساهم بشكل جاد في القضاء على البطالة إلا إذا تم توجيه هذا الاستثمار إلى قطاعات كثيفة العمالة. فوفقًا لنفس التقرير: “على الرغم من أن تجارب السياسات الاقتصادية الناجحة تشير إلى ضرورة توجيه الجانب الأكبر من التدفقات الاستثمارية إلى القطاعات الأكثر قدرة على خلق فرص عمل جديدة إلا أن هذا لم يتحقق في الحالة المصرية إلا بشكل جزئي”. ويحظى قطاع البترول في مصر بأعلى نسبة استثمار أجنبي إلا أنه من القطاعات التي لا تحتاج لأيدٍ عاملة كثيرة، وبالتالي فإن كثافة التشغيل فيه محدودة[21]. وبالمقابل يعتبر قطاع الصناعة والتعدين هو القطاع الرائد من حيث كثافة العمالة[22].
3- بعد الثورة، اقتصرت أهم التغيرات على القوانين الحاكمة للاستثمار على زيادة الضرائب أو فرض ضرائب جديدة.
والحقيقة أن الملاحظات السابقة تعكس غياب رؤية وطنية جادة لكيفية تحقيق أقصى استفادة ممكنة من الاستثمار الأجنبي وتوجيهه بشكل يحقق الصالح العام ويساهم جديًّا في تحسين معيشة المصريين. فالمطلوب الآن وضع سياسات جديدة للوصول لعلاقة متوازنة مع الاستثمار الأجنبي تحقق المصلحة الوطنية المصرية وتساهم في خلق فرص عمل كافية ولائقة وكريمة للمصريين، وفي نفس الوقت تحقق مكاسب للمستثمر لجذب الاستثمارات الجادة (win –win situation).
إن تأثير الاستثمار الأجنبي المباشر على زيادة التشغيل يرتبط بطبيعة الاستثمار الوافد للدولة، فوفق عدد من الدراسات التطبيقية لوحظ أن خلق فرص العمل يرتبط إيجابًا فقط بشكل مباشر بالاستثمار التأسيسي؛ أما في حالة الاندماج والاستحواذ، فقد يؤدي هذا النوع من الاستثمارات إلى زيادة معدل البطالة في حال سعي الشركة الجديدة للاستغناء عن بعض العاملين بسبب التقنية المستخدمة أو استبدال العمالة المحلية بأخرى أجنبية.
وبمراجعة لتطور معدل البطالة مع تطور الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر يلاحظ أن العلاقة بين الاستثمار الأجنبي المباشر ومعدلات البطالة عكسية؛ وهي العلاقة التي تشرحها علاقات مرونة التشغيل في مصر والتي ترتفع إلى 0.58 في قطاعات البناء والتشييد والخدمات بأنواعها، ومن ثم فهي الأكثر جذبًا للمستثمر الأجنبي؛ أما قطاع التصنيع فتختلف مرونة التشغيل فيه من نشاط لآخر، فترتفع في صناعات الغذاء وهي الأقل جذبًا للاستثمارات الأجنبية في مصر وتنخفض في الصناعات الكيميائية والبتروكيميائية (الإهواني والمغربل؛ 2009).
ولكن التشغيل في هذه القطاعات ليس بالضرورة تشغيلًا مدرًّا للدخل، وهو ما تؤكده بيانات الفقر وثبات معامل جيني المعبر عن زيادة عدم العدالة في توزيع الدخل، فعلى الرغم من تزايد تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لمصر منذ عام 2000 استمرت مؤشرات الفقر في الزيادة، حيث ارتفع عدد سكان من هم تحت خط الفقر من 16.7% في عام 2000 إلى 19.6% في عام 2004/ 2005 ثم إلى 21.6 في عام 2008/ 2009 ثم إلى أكثر من 25% في عام 2010/ 2011. على الرغم من التزايد المستمر في قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر، واستمر الفقر في التزايد حتى في المناطق الحضرية والتي تعتبر مركزًا للاستثمارات بوجه عام.
فقد ظل الفقراء بشكل عام خارج خريطة التشغيل والاستثمار في الدولة فنحو 60% من الفقراء في مصر هم من العاملين في عمل غير منتظم وأكثر من 26% ممن يشتغلون في القطاع الخاص المحلي والأجنبي. (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، 2011)
رابعًا: الخلاصة والتوصيات:
يستخلص من التقرير السابق أن سياسة الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر ظلت إلى حدٍّ بعيد متلقية وليست صانعة لخريطة مصرية مستقلة، فقد عكست الخريطة الجغرافية والقطاعية للاستثمارات الأجنبية في مصر أن النظام الحاكم يسعى لاجتذاب الاستثمارات الأقرب للسلطة الحاكمة؛ فقد عانت من تركيز كبير على الاستثمار الساعي وراء الموارد الطبيعية المتمثلة في البترول، وجاءت المرتبة الثانية من نصيب قطاع الإنشاءات من خلال أموال دول الخليج العربي وقطاع التمويل من خلال البنوك الأجنبية العاملة في مصر، مع إغفال مشكلات الوطن الحقيقية. هذه الطبيعة جعلت الاستثمارات الأجنبية في مصر شديدة الارتباط بالأزمة المالية العالمية من ناحية، وغير مؤثرة بشكل ٍ كبير في التشغيل ومكافحة الفقر من ناحية أخرى.
ومن الناحية السياسية فإن تركز الاستثمارات في يد دول بعينها يجعل مصر تابعة لسياسات هذه الدول في المنطقة أكثر منها صانعة لقرارها؛ ويزداد هذا التأثير حدةً حال تركز الاستثمارات الحيوية في يد دولة واحدة.
أضاف عدم الاستقرار السياسي الحالي ملمحًا آخر للتعامل المالي مع العالم الخارجي؛ والذي يتمثل في الأموال قصيرة الأجل والودائع المشروطة بمشروعات بعينها؛ والتي ترتبط بوعود باستثمارات أطول أجلًا في المستقبل من دون تنفيذها الأمر الذي يرفع التوقعات في المجتمع من دون تنفيذ حقيقي وجاد، وهو ما يثير الإحباط الشعبي والقلق حول طبيعة الصفقات التي يديرها النظام الحاكم؛ ويزيد من عدم الاستقرار السياسي بسبب انحسار الموقف الحكومي بين التعطش للأموال والاستثمارات من ناحية وسعيه المستمر لتبرير وتوضيح مواقفه السياسية من الدول المستثمرة من ناحية أخرى بما قد يفقد الحكومة مصداقيتها؛ كما يؤدي استعداد السوق لتلقي الأموال ثم تراجعها إلى زيادة حالة عدم الاستقرار الاقتصادي بشكل عام واستقرار سوق الصرف بشكل خاص.
وهو وضع قد يجعل مصر في مرحلة عدم الاستقرار التي تعيشها أقرب إلى الدول الإفريقية التي تفتح المجال للمصالح الأجنبية للتلاعب بها دون وضوح للرؤية، على الرغم من تزايد صافي الاستثمارات الأجنبية الوافدة لإفريقيا من 0.6% في عام 2000 إلى حوالي 6% في عام 2009 من الاستثمارات الأجنبية في العالم.
ولعل النموذج السوداني هو الأقرب لسيناريو استمرار عدم وضوح الطبيعة الاستثمارية، وعدم وضوح الرؤية حول علاقات تشابك المصالح؛ حيث أصبح السوق السوداني لفترة طويلة مرتعًا لتنافس المصالح بين المصالح العامة لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل من جانب، والسعي وراء جعلها مجالًا مفتوحًا لتصنيع الأسلحة لإيران من جانب، وموردًا أساسيًّا للنفط للصين والموارد الطبيعية للصين من جانب ثالث.
على عكس النموذج الهندي، الذي قام على وضع أسس لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر تقوم على التنوع الجغرافي والقطاعي بين التصنيع (21%) والتمويل (19%) والإنشاءات والعقارات (17%) والتكنولوجيا (18%)؛ مع وضع خطة متماسكة لاجتذاب الاستثمارات في كل قطاع تقوم على مراجعة شبكات الطلب العالمية للصادرات والطبيعة المحلية للمهارات الهندية وتنويع قنوات الاستثمار بين صناديق وأوراق مالية واستثمارات مباشرة. وقد تخطت الاستثمارات الأجنبية في الهند في عام 2009 أكثر من 80 مليار دولار سنويًّا.
ومن ثم نرى ما يلي من توصيات:
أولًا: وضع سياسة جديدة للتعامل مع الاستثمار الأجنبي المباشر تقوم على الأسس التالية:
- التخلي عن التعامل مع جذب الاستثمار الأجنبي على أنه غاية في حد ذاته، أو على أنه ملف من الأرقام التي يعود ارتفاعها بالضرورة بنتائج إيجابية على الاقتصاد المصري.
- العمل على جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وتوجيهه إلى قطاعات اقتصادية يحقق فيها هذا الاستثمار قيمة مضافة للاقتصاد المصري.
ثانيًا: توجيه الاستثمار الأجنبي المباشر إلى القطاعات التي تفتقر إلى الاستثمارات المحلية بما يؤدي إلى نشوء علاقة تكاملية بينهما[23].
ثالثًا: توجيه الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مرتفعة التشغيل وتوزيعه في مناطق جغرافية يتواءم فيها الاستثمار مع طبيعة مهارات أهل المنطقة الجغرافية واحتياجات التنمية بها، وهي السياسة التي لن تؤدي إلى تراجع الانتاجية الخاصة بالعامل أو تشغيله في أعمال غير لائقة ومتدنية الأجر وإنما يتطلب الأمر التركيز على القطاعات القائمة على العنصر البشري بطبيعتها، مثل الصناعات الغذائية ومنتجات الأخشاب وبعض الصناعات الكيميائية، وليس الصناعات النمطية المصرية، مثل صناعة النسيج والتي تحتاج إلى تطوير تقني كبير.
رابعًا: من أهم القطاعات التي نوصي بالعمل على جذب الاستثمار الأجنبي إليها:
1- تطوير الابتكارات والاختراعات والبحث العلمي لأغراض الاستغلال التجاري:
يعد الابتكار والاختراع من الركائز الرئيسة التي تعتمد عليها الاقتصاديات المتقدمة كاقتصاد الولايات المتحدة واقتصاديات جنوب شرق آسيا لدفع عجلة النمو والحفاظ على ميزة تنافسية في الاقتصاد العالمي. فالابتكار والاختراع قادران على فتح آفاق لأنشطة تجارية واقتصادية جديدة لم تكن موجودة من قبل، تتمحور حول هذه الاختراعات مما يعني خلق فرص عمل ومصادر جديدة للدخل. والحافز الرئيس الذي تمنحه الدول للمستثمرين في هذا المجال هو الإعفاءات الضريبية الكبيرة.
في هولندا على سبيل المثال، في الوقت الذي تفرض فيه الدولة ضريبة بنسبة 25% على أرباح الشركات التجارية، تفرض الدولة ضريبة بنسبة ٥٪ فقط على الأرباح التي تنتج عن الاستغلال التجاري للابتكارات والاختراعات التي تطورها الشركات، وذلك كله بالطبع بعد وضع معايير محددة لما يعد ابتكارًا أو اختراعًا[24].
وقد حددت إحدى الدراسات التي أعددتها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (Organization For Economic Co-operation and Development) الإستراتيجيات التي يمكن أن تتبناها الدول لاجتذاب رأس المال الأجنبي الراغب في الاستثمار في مجال الاختراعات والبحث العلمي والتي يمكن تلخيصها كالتالي[25]:
- تحديد نقاط ضعف وقوة منظومة البحث العلمي في الدولة، وصياغة سياسة تهدف إلى تحسين صورة الدولة كجهة للاستثمار في مجال الأبحاث والاختراعات.
- العناية بالمراكز البحثية المتميزة ومنحها ضمانات وحوافز قانونية. والمثال على ذلك في مصر مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا التي نشأت بموجب قانون خاص كمؤسسة بحثية علمية، ونص قانونها على إعفائها من كافة الضرائب والرسوم، وعلى إعفاء ما تستورده من مستلزمات التشغيل والمعدات والأجهزة من الضرائب والرسوم الجمركية[26].
- إنشاء أودية تكنولوجية (technology parks) على غرار وادي التكنولوجيا المقترح إنشاؤه في مدينة الإسماعيلية[27] .
- إيجاد إطار مرن لربط الجامعات والمراكز البحثية بالشركات سواء المحلية أم الدولية.
- صياغة إطار قانوني يقدم ضمانات حقيقية لحماية حقوق الملكية الفكرية.
- منح حوافز ضريبية كما هو موضح أعلاه في النموذج الهولندي.
2- الطاقة البديلة والمتجددة:
في عام 2011 بلغ حجم الاستثمارات العالمية في مجال الطاقة البديلة والمتجددة ٢٦٠ مليار دولار، بزيادة خمسة أضعاف عن حجم هذه الاستثمارات في عام 2004 ( 54 مليار دولار)، ويرجع هذا إلى ارتفاع معدلات استهلاك الطاقة على مستوى العالم[28]. ومن المعروف أن مصر ودول شمال إفريقيا تعد من المناطق الواعدة في العالم في مجال توليد الطاقة المتجددة من الشمس والرياح. وقد قامت العديد من الدول بمنح إعفاءات وتقديم حوافز متنوعة لتشجيع الاستثمار في الطاقة البديلة ومن تلك الحوافز[29]:
- تخصيص أراض (سواء عن طريق حق التملك أم حق الانتفاع) بأسعار زهيدة أو من دون مقابل نظير إقامة وتشغيل المشروع.
- تقديم إعفاءات ضريبية في السنوات الأولى من الاستغلال التجاري لهذه المشروعات.
- ربط الإعفاءات الضريبية بإعادة استثمار جزء من الأرباح في البلد التي تستضيف المشروع.
- تقديم دعم مالي وتمويل لهذه المشروعات من خلال صناديق يتم تمويلها على سبيل المثال من الغرامات التي يتم تحصيلها على المخالفات البيئية.
- أما على صعيد الاقتصاديات الناشئة فتجدر الإشارة إلى تجربة رومانيا ونجاحها في اجتذاب العديد من الاستثمارات الأجنبية في مجال الطاقة المتجددة ولاسيما في العامين الأخيرين[30]. ويعود هذا النجاح في المقام الأول إلى الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الرومانية ومنها على سبيل المثال:
- صياغة إطار تشريعي متكامل وإصدار قانون لتنظيم قطاع الطاقة البديلة والمتجددة قائم على أحدث التوصيات والدراسات الدولية في هذا المجال.
- إلزام الحكومة بتوليد نسبة قدرها 38% من إجمالي الطاقة المولدة في رومانيا من الطاقة البديلة والمتجددة بحلول سنة 2020 في إطار خطة رومانيا 2020 .
- توفير قروض بأسعار فائدة تنافسية للشركات العاملة في مجال الطاقة البديلة والمتجددة.
- ضمان أسعار تنافسية للمدخلات في مشروعات الطاقة المتجددة.
خامسًا: تشجيع الاستثمار الأجنبي في مصر على تبني ما يعرف باسم “Inclusive Business Models“
وهي نماذج عمل حديثة نسبيًّا تقوم على تحقيق منافع متبادلة بين الاستثمار ومواطني المجتمعات والمناطق المحلية ذات الدخل المنخفض.
فمن المعروف أن لكل عمل تجاري سلسلة علاقات تبدأ بوجود موردين لمستلزمات هذا العمل التجاري، ثم عاملين يقومون بإعداد السلعة أو الخدمة التي يقدمها العمل التجاري، ثم موزعين ومستهلكين لهذه السلعة أو الخدمة. وتقوم فكــــرة “Inclusive Business Models” على ضم مواطني المجتمعات والمناطق المحلية ذات الدخل المنخفض إلى هذه السلسلة من العلاقات سواء بأن يتعاقد معهم المستثمر كموردين لمستلزمات نشاطه، أو كعاملين لديه ليقوموا بإعداد منتجاته أو خدماته، أو كموزعين لهذه السلع و الخدمات.
وتم تنفيذ مثل تلك النماذج بشكل موسع في العديد من الدول النامية في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا. مثال لنماذج من هذه الاستثمارات يتمثل في قيام بعض الشركات العالمية بالمساهمة في إنشاء مراكز توزيع صغيرة لمنتجاتها في المناطق ذات الدخل المنخفض، والقيام بتوفير الدعم المادي والمعرفي للقائمين على هذه المراكز من سكان هذه المناطق مما يساعد على توفير فرص العمل ورفع مستوى المعيشة في هذه المناطق[31].
وتتميز هذه النماذج بأنها تحتفظ بالطبيعة الهادفة للربح للاستثمارات، وفي نفس الوقت توفر دخلًا للمواطنين من أصحاب الدخول المنخفضة (وهي بذلك تختلف عن فكرة العمل الخيري للشركات). ويحتاج تطبيق مثل هذه النماذج للتنسيق بين الدولة والمستثمر باعتبار أن الدولة من المفترض أنها أكثر معرفة ودراية بوضع وطبيعة سكان المناطق ذات الدخل المنخفض، وتستطيع أن تساعد المستثمر على تحديد نموذج العمل الذي يتناسب مع طبيعة هذه المناطق.
وختامًا نقول إنه وبمحاولة تجاوز الجدل التقليدي حول ما إذا كانت السياسة تؤثر في الاقتصاد أم العكس، فإن مصر في أحوج أوقاتها إلى تحقيق قدر من الاستقرار السياسي الداخلي حتى تتمكن ليس فقط من جذب الاستثمارات الأجنبية، ولكن أيضًا حتى تكون لديها القدرة على ربط هذه الاستثمارات بأجندة اقتصادية داخلية واضحة، تحدد الأولويات في قطاعات الاستثمار وتوجهها بما يتناسب مع احتياجات المواطن.
إن عدم الاستقرار الداخلي الذي شاب مصر خلال الفترة الأخيرة أثر بشدة في حجم ونوعية الاستثمارات الأجنبية، ليس هذا فحسب، ولكنه سمح أيضًا بدخول ما يمكن أن نطلق عليه الاستثمارات الانتهازية التي تدخل بشروط وأولويات أصحابها بغض النظر عن ملائمتها لأجندة صانع القرار المصري، حتى أصبحت مصر أرضًا مفتوحة للتنافس الدولي والإقليمي على أراضيها من دون ضابط أو رابط، وهو أمر جد خطير على مستقبل البلاد، كما أنه يقوض حتمًا فرص لعب دور إقليمي نتمناه كثيرًا لبلادنا خلال الفترة القادمة، لأننا وفي ظل هذه الظروف المضطربة لم نعد محددين لقاعدة اللعبة في الإقليم، بل أصبحنا خاضعين لقواعد لعب يحددها آخرون منافسون لنا على الريادة الإقليمية.
[1] مجلس أمناء الهيئة العامة للاستثمار- التقرير المصري للاستثمار- نحو توزيع عادل لثمار النمو- 2008.
[2] التقرير السابق- ص 20
[3] التقرير السابق- ص 19
[8] قانون رقم 120 لسنة 1982 بإصدار قانون تنظيم أعمال الوكالة التجارية والقانون رقم 121 لسنة 1982 في شأن سجل المستوردين
[9] مادة 12 من قانون الاستثمار رقم 8 لسنة 1997
[10] مادة 111 من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد رقم 88 لسنة 2003
[11] مادة 8 من قانون الاستثمار رقم 8 لسنة 1997
[12] مادة 10 من قانون الاستثمار رقم 8 لسنة 1997
[13] قرار رئيس الجمهورية رقم 177 لسنة 2012 بتنظيم وزارة الاستثمار
[14] المادة الثالثة من قانون إصدار قانون الاستثمار رقم 8 لسنة 1997
[15] قانون رقم 10 لسنة 2009 لتنظيم الرقابة على الأسواق والأدوات المالية غير المصرفية
[16] المجلس الأعلى للقوات المسلحة- مرسوم بقانون رقم 51 لسنة 2011
[17] قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 10 لسنة 2012 بتعديل بعض أحكام قانون الضريبة على الدخل
[18] القرار السابق
[19] جريدة الشروق- العدد 968- الإثنين 26 سبتمبر 2011
[20] حكم محكمة أسيوط الابتدائية الدائرة 10 مدني كلي- 13/9/2012
[21] التقرير السابق- ص 20
[22] التقرير السابق- ص 19
[23] مجلس أمناء الهيئة العامة للاستثمار- التقرير المصري للاستثمار- نحو توزيع عادل لثمار النمو- 2008 – ص12
[24] http://www.foreigninvestments.eu/pages/ET—Tax-benefits-for-innovative-businesses-in-the-Netherlands-.html
[26] قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 161 لسنة 2012 بإنشاء مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا- الجريدة الرسمية- 20 ديسمبر 2012
[28]http://www.kpmg.com/Global/en/IssuesAndInsights/ArticlesPublications/Documents/taxes-incentives-renewable-energy-2012.pdf
[29] التقرير السابق
[31] للاطلاع على بعض هذه التجارب:http://www.businesscalltoaction.org/category/case-studies
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home