صفاء البحر
****
في البحر من الأسرار ما الله وحده به عليم..
ولم أرَ في مخلوقات الله كلِّها أشبه بالبحر من النفس البشرية..
في البحر الهدوء والغضب... والنفس تسكن وتضطرب..
في البحر سطح وقاع... وفي النفس ما تُظهر ويُبطن..
في البحر... في البحر خطايا البشر وآثار تدنيسهم... وفي
النفس آثار غُرَز الآخرين وجروحهم..
في البحر كنوز وثمَر... وفي النفس طيبة وخير..
ولا يمكنك أن تغوص إلا في اثنين.. في البحر وفي النفس البشرية...
وحين تغوص لا تجد في سواهما الغموض والأسرار
تلك الأسرار التي تتولد منها عظمة البحر.. وعظمة النفس البشرية حين يريد الإنسان أن يكون عظيما...
بين البحر وموجه مجاهدة الغضب والهدوء...
وبين الإنسان ونفسه مجاهدة الوسوسة والتزكية...
****
يقولون أن البحر حين يغضب.. يتعالى موجه فيخطف الأجساد ويغرقها دونما رحمة .. ويقلب السفن والبواخر دونما شفقة...
يهابونه.. ولكنهم يرتمون بين أحضانه.. يلعبون ويلهون معه..
ثم إن غضب وثار شتموه.. ثم سرعان ما يجذبهم سحره.. يعودون.. يتجبرون ويتغطرسون.. ثم -كعادة البشر- يتهمون.. يتهمون كل مخلوقات الله في سبيل تبرير خطاياهم..
يتهمون البحر وهم يعلمون أنه جندي من جنود الله..
الله الذي يأمر جنوده.
. الله الحكم العدل الرحيم بعباده ولو شاء لأغرقنا أجمعين
﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾
(سورة الأنبياء - الآية 23)
في الموج رغم قسوته الظاهرة من العظمة ما الله به عليم.. عظمة تذكّر الإنسان صغر حجمه وقلة حيلته.. تذكر الإنسان مهما كبر وتقلب في مناصب الدنيا وخيراتها أن هناك ما هو أعلى منه.. مجرد صورة لموج تشعر المرء بالمهابة والهيبة فكيف بمن اختلط جسده بموجة عالية؟!!!
كيف بمن اتخذوا التزلج على الأمواج لعبة وهواية.. لا شك أن من يلعب مع الأمواج قد أدرك أن المخاطرة مهما بلغت فيها اللذة لا تعدو أن تكون -ككل ما يتعلق ببني الإنسان- محدودة ضيقة.
****
في الموج عظمة تذكر الإنسان -في أضعف لحظات إنسانيته-أن لا ملجأ له سوى ربه
﴿هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ﴾
(سورة يونس - الآية 22)
وفي البحر الزَّبد..يضرب الله به أعظم مثل عن صراع الحق مع الباطل...
﴿أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ﴾
(سورة الرعد - الآية 17)
الحق والباطل.. ذلك الصراع الذي بدأ منذ خَلْق أبينا آدم عليه السلام.. استكبر إبليس لعنه الله عن السجود لأبينا.. لأنه رفض الحق.. وفضّل الباطل.. ويستمر الصراع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
وفي أطول رحلة يعرفها التاريخ البشري.. رحلة صراع الحق مع الباطل.. تتزايد الفتن وتختلط المفاهيم ويتزين الباطل فيعجب البشر به.. كما يبدو الزبد كثيفا.. به من الرونق والجمال الظاهري ما يفتن العقول.. فتتوه النفس البشرية في خضم الفتن وتلاحقاتها ولا تستطيع التمييز بين الحق والباطل.. وقد تميز.. ولكن المعاصي تحول دون اتباع الأول واجتناب الثاني.. فيدعو القلب بإخلاص
ياااااااااا رب
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه
وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه
وفي البحر من العظمة الشيء الكثير
وفيه من آيات الإعجاز ما تضمّنه كتاب العلي الكبير
وفيه من الأسرار ما لا يعرفه سوى اللطيف الخبير
********
في البحر -رغم خطايا البشر- صفاء بديع يسحر القلوب ويأسرها.. وفي النفس -رغم أكدار الدنيا- صفاء خفي ينعش القلوب ويغذيها..
صفاء يجلو بتنقية النفس وتزكيتها
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾
(سورة الشمس - الآية 9)
منقول للتدبر
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home