في ظلال قوله تعالى(التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون)

التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)التوبة
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن .
كل مؤمن على الإطلاق .
منذ كانت الرسل ,
ومنذ كان دين اللّه . .
ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال ;
إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال .
والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة ,
والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة:
(التائبون . العابدون . الحامدون . السائحون . الراكعون الساجدون . الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . والحافظون لحدود الله). .
(التائبون). .
مما أسلفوا , العائدون إلى اللّه مستغفرين .
والتوبة شعور بالندم على ما مضى ,
وتوجه إلى اللّه فيما بقي ,
وكف عن الذنب ,
وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك .
فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح .
(العابدون). .
المتوجهون إلى اللّه وحده بالعبادة وبالعبودية ,
إقراراًبالربوبية . .
صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر , كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع .
فهي إقرار بالألوهية والربوبية للّه في صورة عملية واقعية .
(الحامدون). .
الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة ;
وتلهج ألسنتهم بحمد اللّه في السراء والضراء .
في السراء للشكر على ظاهر النعمة ,
وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة .
وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها ,
ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن اللّه الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه ,
مهما خفي على العباد إدراكه .
(السائحون). .
وتختلف الروايات فيهم .
فمنها ما يقول:إنهم المهاجرون .
ومنها ما يقول:إنهم المجاهدون .
ومنها ما يقول:إنهم المتنقلون في طلب العلم .
ومنهم من يقول:إنهم الصائمون . .
ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق اللّه وسننه , ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك ! . . .). .
فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد .
فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت اللّه على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى اللّه , وإدراك حكمته في خلقه , وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق .
لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار .
ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك . .
(الراكعون الساجدون). .
الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم ;
وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم .
(الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر). .
وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة اللّه ,
فيدين للّه وحده ولا يدين لسواه ,
يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع ;
ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج اللّه وشرعه . .
ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم ;
وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه للّه وحده ,
وشريعة اللّه وحدها هي الحاكمة فيه ,
فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولاً إلى الأمر بالمعروف الأكبر ,
وهو تقرير ألوهية اللّه وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم .
والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولاً إلى النهي عن المنكرالأكبر .
وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير اللّه عن طريق حكمهم بغير شريعة اللّه . .
والذين آمنوا بمحمد - [ صلى الله عليه وسلم ] - هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة اللّه ,
وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة .
فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي .
ولم ينفقوا قط جهدهم , قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل !
ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع .
فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكرالفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر , كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم !
(والحافظون لحدود اللّه). .
وهو القيام على حدود اللّه لتنفيذها في النفس وفي الناس .
ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها . .
ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ,
لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم .
ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة اللّه وحدها في أمره كله ;
وإلا الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ;
ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به اللّه . .
والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع .
ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود اللّه فيه . .
كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم !
هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد اللّه معها بيعته .
وهذه هي صفاتها ومميزاتها
توبة ترد العبد إلى اللّه ,
وتكفه عن الذنب ,
وتدفعه إلى العمل الصالح .
وعبادة تصله باللّه وتجعل اللّه معبوده وغايته ووجهته .
وحمد للّه على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل للّه والثقة المطلقة برحمته وعدله .
وسياحة في ملكوت اللّه مع آيات اللّه الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق .
وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة .
وحفظ لحدود اللّه يرد عنها العادين والمضيعين , ويصونها من التهجم والانتهاك . .
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها اللّه على الجنة ,
واشترى منها الأنفس والأموال ,
لتمضي مع سنة اللّه الجارية منذ كان دين اللّه ورسله ورسالاته .
قتال في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه ;
وقتل لأعداء اللّه الذين يحادون الله ;
أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر
بين الحق والباطل ,
وبين الإسلام والجاهلية ,
وبين الشريعة والطاغوت ,
وبين الهدى والضلال .
وليست الحياة لهواً ولعباً .
وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً .
وليست الحياة سلامة ذليلة ,
وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة . .
إنما الحياة هي هذه:
كفاح في سبيل الحق ,
وجهاد في سبيل الخير ,
وانتصار لإعلاء كلمة اللّه ,
أواستشهاد كذلك في سبيل اللّه . .
ثم
الجنة
والرضوان . .
هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه:
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). . .
وصدق اللّه .
وصدق رسول اللّه . .
انتهى من الظلال.
رحم الله صاحب الظلال رحمة واسعة.
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home