الصدقة الأعظم
بسم الله الرحمن الرحيم
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا
قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ
وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ
قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ
[متفق عليه]
يا أيها الإخوة الأكارم ؛ هذا الحديث يؤكد على المؤمن أن يسارع إلى الخيرات،قال الله تعالى:
(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)
[سورة آل عمران]
من طبيعة الإنسان أنه يحب الخير ، ومن علائم حب الخير المسارعة إليه ،
فإذا تيقَّن الإنسان أن الخير كله في الأعمال الصالحة سارع إليها ، لذلك ،
من علامات المؤمن المسارعة إلى فعل الخيرات ، وترك المنكرات، والتقرب إلى
الله بالقُرُبات ، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه رجلٌ .
فقال : يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً ؟
وكما تعلمون من قبل أن الصدقة سُمِّيت صدقةً لأنها تعبر عن صدق الإنسان ،
دليل صدقه ، الذي تعتقده، والذي تؤمن به لا يقدم ولا يؤخر ، ما لم يترجم
إلى عمل ، فالعمل هو الذي يؤكد صدق الإنسان ، إنك إذا آمنت بحقيقةٍ ثابتة ،
ماذا فعلت ؟ لم تفعل شيئاً ، لم تفعل شيئاً إلا إذا عبرت عن إيمانك بعمل
طيب ،لهذا قال الحسن البصري:
الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل
فسمي دفع المال الذي هو مادة الشهوات ، والذي هو قوام الحياة ، دفع
المال المكتسب من وجهٍ حلال في سبيل الله ، هذا اسمه صدقة لأنه يعبِّر عن
صدق الإنسان ، فهذا الصحابي الجليل الذي جاء النبي عليه الصلاة والسلام
يسأله عن الصدقة الفضلى ، أو أي الصدقة أفضل ؟
أن تصدق
أي أن تتصدق،
وَأَنْتَ صَحِيحٌ
أي في كامل صحتك ، لأن الإنسان إذا شارف على الموت هذا المال الذي
بحوزته لا جدوى منه ، لا ينفعه، ذهبت قيمته عند صاحبه ، المال قد يأخذك إلى
مكانٍ جميل ، قد تأكل به ألذ الطعام ، قد تسكن به أجمل البيوت ، قد تركب
به أجمل المركبات ، ولكن إذا جاء الموت ، وانقطع الأمل ، ولاح شبح الموت ،
ما قيمة هذا المال ؟ لذلك حينما يتصدق الإنسان بماله وقد يئس من الحياة ،
هذا المال لا شأن له ، عند صاحبه ، لا قيمة له عند صاحبه ، يعطيه جزافاً
لأنه لم تعد به حاجة ، لكن البطولة أن تصدق بهذا المال وأنت صحيح ، أي في
أوج قوتك ، في أوج شبابك ، هذه الأموال لها معنى تحل بها بعض المشكلات ،
تلبي بها بعض الرغبات ، تعطيها لمَن تخشى بأسه ، أو ترجو خيره ، تعطيها
لمَن أنت مكلف أن تعوله ، لكنك أنفقت هذا المبلغ في سبيل الله عز وجل .لذلك قيمة الصدقة تنبع من قيمة المال ، فإذا كان المال عندك ذا قيمة أنت صحيح ، أنت في أمس الحاجة إلى هذا المال،
لذلك قال عليه الصلاة :
سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَالُوا
وَكَيْفَ قَالَ كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا
وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ
دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا
[رواه النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ
النبي عليه الصلاة والسلام قال :
اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك
[أخرجه الحاكم في مستدركه عن ابن عابس]
ابن آدم اعرفني في الرخاء أعرفك في الشدة ، فإذا تصدقت وأنت صحيح ، هذه
الصدقة لها أجرٌ آخر؛ بحسب حاجتك إلى المال ، بحسب حرصك عليه ، بحسب ما
يفعله هذا المال في حياتك ، فلهذا إذا شئت أن تنال أعلى الأجر ، وأعظم
الأجر ، فتصدق وأنت صحيح شحيح ، وأنت في أوج حياتك ، لا أن تكتب وتصبح تحت
رحمة هذا الذي وكَّلته بإنفاق المال من بعدك ، قد ينفقه وقد لا ينفقه ، قد
يعطي وقد لا يعطي ، قد ينفِّذ وقد لا ينفذ ، قد يتهم آباه أنه ذا تفكير
سقيم ، لماذا ندفع لهذا العمل الخيري كذا ، نحن أولى به ، فأنت لست
متأكداً، إن لم تنفق هذا المال في حياتك لست متأكداً من أنه سينفق بعد
مماتك ،العلماء قالوا : الشح أعم من البخل ، وكأن الشح جنس والبخل نوعٌ،
قال الله عز وجل:
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
[سورة الحشر]
الشح مرض خطير ، مرض خطير يصيب النفس،وقد قال عليه الصلاة والسلام :
أندم الناس من عاش فقيراً ليموت غنياً
هذا مريض ، ليس المال هدفاً بذاته إنما هو وسيلة ، وقيل : البخل في
أفراد الأمور والشح عام ، أي الشح سمة عامة في النفس ، والبخل حالة خاصة .وقيل أيضاً : الشح غالب في حال الصحة ، فإذا سمح فيها وتصدق ، كان أصدق في نيته وأعظم لأجره، فالشح ملازم للصحة ، الإنسان إذا قوي ، صحيح ، هذا المبلغ يأكل به طعاماً نفيساً ، يذهب مع أصدقائه إلى نزهة ، لماذا يدفعه إلى الفقير ؟ النبي عليه الصلاة والسلام كأنه قرن الصحة بالشح ، ما دمت صحيحاً فأنت شحيح ، معنى شحيح ، بمعنى أنك بحاجةٍ ماسة لهذا المال ، أنت محتاج إليه ، أنت حريص عليه، فإذا أنفقته في طاعة الله ، كان هذا الإنفاق ذا أجر كبير .
وقال بعض العلماء : الشح هو البخل مع الحرص ، فإذا اجتمع البخل والحرص كان شحاً ، والشح أعاذنا الله وإياكم من هذا المرض الخطير ، أي إذا كان الأب شحيحاً ، ينتظر أولاده موته ، فإذا كان كريماً، يتمنى أولاده أن تدوم حياته إلى آخر وقتٍ ممكن ، وشتان بين أن تعيش بين أناس يتمنون الموت ، وبين أن تعيش بين أناس يتمنون حياتك، الفرق بين هاتين الحالتين هو الشح والبخل .
إذاً أن تصدق وأنت صحيح وشحيح تخشى الفقر،
وربنا عز وجل قال :
(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
[سورة آل عمران]
وقال :
(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)
[سورة البقرة]
كلما نويت أن تنفق هذا المال قال لك : أنت أولى به ، لك أولاد ، قد يأتي
زمان أسود ، لا تتحامق بإنفاق هذا المال ، ابقِ هذا المال في حوزتك ، هذه
وساوس الشيطان،قال الله تعالى:
(وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
[سورة سبأ : من الآية 39]
يخلفه ..وقال أيضاً:
(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً)
[سورة النساء]
إذاً الصحيح أغلب الظن هو شحيح ، بمعنى شحيح بحاجة إلى المال ، يحرص عليه ، المال له قيمةٌ كبيرة عنده ،
تَخْشَى الْفَقْرَ
وكل إنسان في حال صحته يخشى أن يكون فقيراً ويتمنى أن يكون غنياً ، في
هذه الحالة إذا تصدقت كان لهذه الصدقة أجرٌ عظيم عند الله عز وجل،
وَتَأْمُلُ الْغِنَى
أي تطمح إليه،
وَلَا تُمْهِلُ
إذا عزمت على عمل صالح فلا تمهل ، إذا عزمت فأقدم وتوكل على الله ولا تمهل،
حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ
أي بلغت الروح الحلقوم ، أي قاربت بلوغه ، هذا معنى بلغت، أي قاربت ،
لأن الإنسان إذا قارب الموت لا تنفذ وصيته ، ولا يعتد بكلامه ، وأصبح المال
مِلك الورثة ، لهذا فسرت بلغت بمعنى قاربت ، إذ لو بلغته حقيقةً لم تصح
وصية ، ولا صدقة ، ولا شيء من تصرفاته بالاتفاق ، يعني اتفق لعلماء على أن
الكلام الذي يتفوه به الميت عند النزع لا يعتد به ، لا صدقة ، ولا وصية ،
ولا أي توجيه آخر ، هذا المال الذي تركه في حال بلوغ الموت بمعنى المنازعة ،
فقد أصبح للورثة ، وكلام الذي على فراش الموت لا يعتد به أبداً .
حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا ولفلان كذا
أعطوا فلانًا مائة ألف ، أعطوا فلانًا مائتين ، هذا البيت لفلان ، هذا
البيت ليس له معنى عندك ، الأرض ليس لها معنى ، المزرعة لم يعد لها معنى ،
هذه السيارة لفلان ، صارت لا قيمة لها ، كل هذه الأشياء حينما سخوت بها عند
الموت لا قيمة لها إطلاقاً ، لذلك البطولة وأنت حي ترزق ، وأنت صحيح شحيح،
حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا ولفلان كذا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ
الأصح من هذا وقد كان لفلان كذا ، أي أن هذا المال أصبح لفلان الوريث ، وليس لك أن تقول : لفلان ولفلان .قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَأَنْ يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عِنْدَ مَوْتِهِ
[رواه أبوداود]
فهذا المال عندما تبلغ الحلقوم ليس لك ، وليس لك الحق أن تقول لفلان
ولفلان ، هذا أصبح للوريث، فالوريث إما أن يجيز هذه الوصية وإما أن يرفضها ،
وله الأمر وليس لك الأمر ، فالإنسان لا يكون تحت رحمة الوريث ، ولا تحت
رحمة الوصي ، ولا تحت رحمة أولاده ، ولا تحت رحمة أحد .1قال تعالى في سورة النساء
" ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به
لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا.
وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما.
ولهديناهم صراطا مستقيما" ..
فمجرد البدء، يتبعه العون من الله.
فمجرد البدء، يتبعه العون من الله.
ويتبعه التثبيت على المضي في الطريق.
ويتبعه الأجر العظيم.
وتتبعه الهداية إلى الطريق المستقيم ..
وتتبعه الهداية إلى الطريق المستقيم ..
وصدق الله العظيم ..
فما يخدع الله - سبحانه وتعالى - عباده؛
ولا يعدهم وعدا لا يفي لهم به؛
ولا يعدهم وعدا لا يفي لهم به؛
ولا يحدثهم إلا حديث الصدق ..
" ومن أصدق من الله حديثًا " ؟2
والحمد الله رب العالمين
1-المصدر : منقول عن: شرح الحديث الشريف – أحاديث متفرقة – الدرس (005 – 127 ) :
المبادرة إلى الخيرات – أي الصدقة أعظم.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1988-09-18
2-ظلال القرآن
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home