مقال نشر فى الاهرام عند بدء البناء فى السد العالى -انتاج سنة 60
تحية له..
فرحت أمس لجمال عبد الناصر.
لقد تحققت أمامه الرؤى التى كانت تعبر خياله وكأنها الأحلام البعيدة التى لا تلحق ولا تطال.
لقد التقى وجهاً لوجه، مع الآمال التى طالما بشر بها، ومع الأهداف التى طالما دعا إليها، ومع الخطط التى رسمها للوصول بوطنه إلى حيث يريد له.
التقى بها وجهاً لوجه فى أسوان. وكانت الآمال والأهداف والخطط قد أصبحت حقائق كبيرة يراها بعينيه، ويراها شعبه معه، وتراها الدنيا معه ومع شعبه.
طوال يوم أمس - فى أسوان - كانت عيناى عليه.. وكانت فرحتى له، من قلبى.
ما كان أصعب طريقه إلى هذه الساعات التى عاشها أمس فى أسوان.
ما أصعب الذى واجهه، وما أشد الذى قاساه. وما أثقل الذى حمله على كتفيه وصمد تحته لم ينوء به ولم يتململ، وهو فى ثقل الجبال!
ما أصعب الجهد الذى بذله وهو يحبس أسراره الكبرى فى صدره ويربط عليها بأعصابه ويشدد الرباط.
ما أصعب الانفعالات التى تعرض لها، وكيف استطاع أن يملك دقات قلبه خلال اللحظات الحاسمة التى غير بها مجرى التاريخ.
كيف كانت دقات قلبه، وهو يتخذ فى الساعة الحادية عشرة من مساء ليلة 23 يوليو قراره الشهير بالمضى فى تنفيذ الثورة كما وضع خطتها رغم أن أمرها قد انكشف للذين كانت الثورة عليهم... واستغرق فى فكره لحظة ثم قال:
- لم يعد مجال إلا للمضى فى الثورة، لقد بدأت العجلة تدور ولا يمكن إيقافها.
وبدأت الكتائب التى صنعت الثورة تخرج من معسكراتها... وانهار النظام الملكى الذى قضى فى مصر ما يقرب من قرن ونصف قرن يمكن لنفسه على أرضها ويحكم سيطرته على شعبها بكل طريق.
كيف كانت دقات قلبه وهو واقف على بعد بضعة كيلو مترات، من قاعدة الاحتلال الكبرى فى قناة السويس، وفيها ثمانون ألفاً مدججين بالسلاح، ومدرعاتهم من حولهم وطائراتهم على مطاراتهم بالقرب منهم، وأسطولهم يملك السيطرة فيما يحيط بهم من بحار، ثم يقف هو يقول لشعب ضعيف أعزل :
- يجب أن يحمل الاستعمار عصاه على كاهله ويرحل أو يقاتل حتى الموت دفاعاً عن وجوده!
كيف كانت دقات قلبه وهو جالس مع جون فوستر دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، ودالاس يومها صاحب السطوة فى معسكر الغرب كله، وقائد هذا المعسكر ومحركه، وأهم من هذا دالاس يومها صاحب فكرة الأحلاف العسكرية من حول الاتحاد السوفيتى وصانعها نطاقاً من الفولاذ.
ويطلب منه دالاس فى ذلك اللقاء الأول والأخير بينهما سنة 1953 فى دار السفارة الأمريكية فى القاهرة أن يقف مع الغرب وينضم لأحلافه ويقول له جمال عبد الناصر :
- ليس ذلك طريقنا... إننا نؤمن بعدم الانحياز.
كيف كانت دقات قلبه وهو جالس مع أنتونى إيدن نائب رئيس وزراء - ونستون تشرشل وقتها - وكان ذلك هو اللقاء الأول والأخير بينهما وكان التاريخ هو مارس 1955 - ويطلب منه إيدن أن يمتنع عن مقاومة حلف بغداد، ويكون الرد الذى يتلقاه إيدن :
- إننا سوف نمضى فى مقاومة حلف بغداد إلى نهاية المدى... إننا نراه خطراً على وحدة القومية العربية، ونراه دفعاً بشعوبنا إلى الحرب الباردة.
كيف كانت دقات قلبه وهو يكظم الغيظ بعد غارة غزة سنة 1955.
ويقف غداة الغارة يخطب فى الكلية الحربية ويقول :
- إن هذه الغارة على غزة سوف تكون نقطة تحول فى تاريخ الشرق الأوسط.
ثم لا يفصح بعدها، ثم يبدأ مفاوضات عقد صفقة السلاح المشهورة مع الاتحاد السوفيتى، ثم يصل إلى يوم القرار النهائى، ويكتب برقية من كلمتين يسلمها إلى عبد الحكيم عامر لتطير على الفور إلى الوفد العسكرى الذى كان يقوم بالمفاوضات سراً فى براج.
والبرقية تقول : وقعوا الصفقة.
هذا وهو يعلم أنه يعيش فى جزيرة يحيط بها نفوذ الغرب من جميع نواحيها.
كيف كانت دقات قلبه وهو يعطى تعليماته بالاعتراف بالصين الشعبية، وكانت الصين تعيش يومها فى شبه عزل صحى دفعتها إليه أمريكا، ولم تجسر على اختراقه دولة كبرى أو صغرى بعد حرب كوريا.
ثم لم يكن له من رد على التهديد والوعيد إلا قوله :
- سياستنا مستقلة ونحن نرسمها فى بلدنا ولا نتلقى الأوامر من الخارج!
محمد حسنين هيكل
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home