قصة وعبرة
روي عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أنه افتقد رجلاً ذا بأسٍ شديد من أهل الشام، فقيل له: " تتابع في هذا الشراب يعني انغمس في الشراب ـ "، فقال عمر لكاتبه: " اكتب: من عمر إلى فلان، سلامٌ عليك، وأنا أحمد الله إليك ـ وهذا لشارب خمر ". فإذا كان للإنسان صديق زلَّت قدمه، ترك الصلاة، انحرف، ارتاد دور اللهو، شرب الخمر، فلا ينبغي أن يبتعد عنه، لا ينبغي أن يقول: هذا الإنسان ضل وانتهى أمره، فأين أمَلُك بالله عزَّ وجل ؟ انظر إلى هذا الخليفة العظيم عملاق الإسلام، لم يقل عن صاحبه: انتهى، بل أرسل له رسالة ـ قال له: " أمَّا بعد ؛ من عمر إلى فلان، سلامٌ عليك، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، بسم الله الرحمن الرحيم:
﴿ حم(1)تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2)
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾
ثمَّ ختم الكتاب وقال لرسوله: " لا تدفعه إليه إلا إذا وجدته صاحياً ـ أما إذا كان سكران فاتركه ـ إذا وجدته صاحياً ادفعه إليه "، ثم أمر مَن عنده بالدعاء له بالتوبة - فدعاء الأخٍ لأخيه بظهر الغيب لا يُرَد ـ فلمَّا أتته الصحيفة جعل يقرأها ويقول: " قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذَّرني عقابه "،
فلم يبرح يردِّدها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع ـ
أي أنه نزع عن شرب الخمرـ وتاب توبةً نصوحًا،
وحسُنَت توبته،
فلما بلغ عمر أمره قال:
" هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم زلَّ زلَّةً، فسدِّدوه
وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا يكن أحدكم عوناً للشياطين عليه".
القصَّة بليغة فيها توجيه دقيق.
فأحياناً أخ يترك الصلاة، وبعد ذلك ينغمس في الملذَّات، إخوانه يبتعدون عنه لأنه ضل، لا، ثم لا. بل يجب أن تصلوه، وأن تزوروه، يجب أن تتفقَّدوه ليشعر بالعطف، وبالرحمة منكم ويدري أن له إخوة يقبلون عثرته. يقال: إن الإمام مالك بن دينار كان يمشي في الطريق، فرأى رجلاً سكران وقد وقع مغمياً عليه، والزبد وآثار الخمرة على فمه، وهو يقول: " الله الله "، وهو في غيبوبة، فكبُر على هذا الإمام العظيم أن يخرج هذا الاسم من فمٍ نجس، فجاء وغسل فمه، فلمَّا صحا من سباته قيل له: " أتدري من الذي غسل فمك ؟ قال: لا، قالوا: الإمام مالك بن دينار بنفسه "، يبدو أن الله سبحانه وتعالى أذِنَ له بالتوبة، فتاب توبةً نصوحا، وصلَّى الفجر يوما في المسجد الذي يصلي فيه مالك بن دينار.
فرأى مالك بن دينار الإمام العظيم إنسانًا يبكي أشدَّ البكاء في صلاته، ولعله نسي ما جرى بالأمس القريب فقال: " يا هذا من أنت ؟ " قال: " الذي هداني أخبرك بحالي " فُيروى أن مالكًا رأى في المنام أن قائلاً يقول له: " يا مالك طهَّرت فمه من أجلنا فطهَّرنا قلبه من أجلك ".
أي أن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب لا ترد، إذا كان لك أخ ضَل، أو إنسان له ابن ضل، فدعاء الأب والأم وإخوته له بالهدى إذا صدر من قلبٍ مخلص، لعلَّ الله سبحانه وتعالى يستجيب، ولعلَّ الله سبحانه وتعالى يليِّن قلب هذا الشارد.
على كلٍ، إنّ الإنسان إذا وقعت له مع أخٍ مشكلة، أو رأى أن أخاه قد زلَّت قدمه فهو أمام خيارين ؛ إما أن يكون عوناً للشيطان عليه، يشهِّر، يغتابه، يشمت فيه، ينشر الفضيحة بين الملأ جميعاً، فهذا الذي زلَّت قدمه يزداد بُعداً وانحرافاً ومعصيةً وعناداً، ماذا فعلنا معه ؟ كنَّا عوناً للشيطان عليه، أما إذا تلقَّفناه بالرحمة، وعالجناه بالصبر وكتمان الأمر، مع ستره، وعدم إذاعة سرِّه، وزرناه ووصلناه، لعلَّ قلبه يلين، ولعلَّه يشعر بحب المؤمنين من إخوانه ووفائهم نحوه فيفيءَ إلى رشده.
سيدنا عمر جعل هذه الآيات الأولى من سورة غافر موضوعاً لرسالةً بعث بها لصديقٍ له في الشام زلَّت قدمه، وانغمس في شرب الخمر.
ذي الطول هنا: ذي الفضل، فمعنى الطول أيْ طال فضله كل مخلوقاته، أحياناً الإنسان يكون ماله قليلًا جداً، فلو أراد أن يتودّد للناس بماله فلن يستطيع، لكن الإنسان الأكثر مالاً فماله يطول كثيرًا من الناس، ولكنه لا يستطيع كل الناس، لكن ربنا عزَّ وجل هو الخالق، وهو الغني، فخيره يطول كل الخلق، إنسان يقول لك: والله لم أعد أتحمَّل، طاقة الاحتمال قلَّت، الشاغر امتلأ، الميزانية أُغْلِقَت، فتحس أن الإنسان محدود، لكن ربنا عزَّ وجل كن فيكون.
﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ﴾
ترتيب رائع، غافر الذنب مقابلها ؟ الذنب يقابله العقاب، أما مع التوبة فيقابله " ذي الطول "، أي إن أذنبت، ولم تتب هو شديد العقاب، إن أذنبت وتبت إلى الله عزَّ وجل ذي الطول، وبعد هذا.
﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾
موسوعة النابلسى للعلوم الاسلامية
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home