وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
الحمد لله والصلاة و السلام على رسول الله
قال تعالى في سورة ص
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
" اصبر "
.. إنها الإشارة إلى الطريق المطروق في حياةالرسل –
عليهم صلوات الله –
الطريق الذي يضمهم أجمعين.
فكلهم سار في هذا الطريق.
كلهم عانى
. وكلهم ابتلي. وكلهم صبر.
وكان الصبر هو زادهم جميعاً وطابعهم جميعاً.
كل حسب درجته في سلم الأنبياء ..
لقد كانت حياتهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات؛ مفعمة بالآلام؛
وحتى السراء كانت ابتلاء وكانت محكاً للصبر على النعماء
بعد الصبر على الضراء.
وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال ..
ونستعرض حياة الرسل جميعاً -
كما قصها علينا القرآنالكريم –
فنرى الصبر كان قوامها،
وكان العنصر البارز فيها.
ونرى الابتلاء والامتحان كانمادتها وماءها ..
لكأنما كانت تلك الحياة المختارة - بل إنها لكذلك
- صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية،
لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات؛
وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض؛
وتتجرد من الشهوات والمغريات؛
وتخلص لله وتنجح في امتحانه،
وتختاره على كل شيء سواه
.. ثم لتقول للبشرية في النهاية: هذا هو الطريق
. هذا هو الطريق إلى الاستعلاء، وإلى الارتفاع.
هذا هو الطريق إلى الله.
" اصبر على ما يقولون "
.. وقد قالوا: " هذا ساحر كذاب "
.. وقالوا: " أجعل الآلهة
إلهاً واحدًا؟ إن هذا لشيء عجاب "
.. وقالوا: " أأنزل عليه الذكر من بيننا؟
" .. وغير ذلك كثير.
والله يوجه نبيه إلى الصبر على مايقولون.
ويوجهه إلى أن يعيش بقلبه
مع نماذج أخرى غير هؤلاء الكفار.
نماذج مستخلصة كريمة.
هم إخوانه من الرسل الذين كان يذكرهم ع ويحس بالقرابةالوثيقة
بينه وبينهم؛
ويتحدث عنهم حديث الأخوة والنسب والقرابة
. وهو يقول ..
رحم الله أخي فلاناً .. أو
أنا أولى بفلان.
" اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب " ..
يذكر داود هنا بأنه ذو القوة. وبأنه أواب
.. وقد جاء من قبل ذكر قوم نوح وعاد وفرعون ذي
الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة .. وهم طغاة بغاة.
كان مظهر قوتهم هو الطغيان والبغي والتكذيب.
فأما داود فقد كان ذا قوة، ولكنه كان أواباً،
يرجع إلى ربه طائعاً تائباً عابداً ذاكراً.
وهوالقوي ذو الأيد والسلطان.
وقد مضى في سورة البقرة بدء قصة داود،
وظهوره في جيش طالوت، في بني إسرائيل - من بعد
موسى - إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله.
فاختار لهم طالوت ملكاً.
ولقي بهم عدوهم الجبار جالوت وجنوده.
وقتل داود جالوت.
وكان إذ ذاك فتى
ومنذ ذلك الحين ارتفع نجمه
حتى ولي الملك أخيرًا؛
وأصبح ذا سلطان.
ولكنه كان أواباً رجاعاً إلى ربه بالطاعة والعبادة والذكر والاستغفار.
ومع النبوة والملك آتاه الله من فضله قلباً ذاكراً وصوتاً رخيماً،
يرجع به تراتيله التي يمجد فيها ربه
وبلغ من قوة استغراقه في الذكر،
ومن حسن حظه في الترتيل،
أن تزول الحواجز بين كيانه وكيان هذا الكون
وتتصل حقيقته بحقيقة الجبال والطير في صلتها كلها ببارئها،
وتمجيدها له وعبادتها .
فإذا الجبال تسبح معه،
وإذا الطير مجموعة عليه،
تسبح معه لمولاها ومولاه:
" إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق.
والطير محشورة كل له أواب " ..
ولقد يقف الناس مدهوشين أمام هذا النبأ ..
الجبال الجامدة تسبح مع داود بالعشي والإشراق،
حينما يخلو إلى ربه، يرتل ترانيمه في تمجيده وذكره.
والطير تتجمع على نغماته لتسمع له وترجع معه أناشيده
.. لقد يقف الناس مدهوشين للنبأ إذ يخالف مألوفهم،
ويخالف ما اعتادوا أن يحسوه من العزلة
بين جنس الإنسان، وجنس الطير، وجنس الجبال!
ولكن فيم الدهش؟ وفيم العجب؟
إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة.
وراء تميز الأجناس
والأشكال والصفات والسمات ..
حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارىء الوجود كله
: أحيائه وأشيائه جميعاً.
وحين تصل صلة الإنسان بربه إلى درجة الخلوصوالإشراق والصفاء،
فإن تلك الحواجز تتراح؛
وتنساح الحقيقة المجردة لكل منهم
فتتصل من وراء حواجز الجنس
والشكل والصفة والسمة التي تميزهم
وتعزلهم في مألوف الحياة!
وقد وهب الله عبده داود هذه الخاصية؛
وسخر الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق
. وحشر عليه الطير ترجع مع ترانيمه تسبيحاً لله.
وكانت هذه هبة فوق الملك والسلطان،
مع النبوة والاستخلاص.
" وشددنا ملكه. وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " ..
فكان ملكه قوياً عزيزاً.
وكان يسوسه بالحكمة والحزم جميعاً
. وفصل الخطاب قطعه والجزم فيه
برأي لا تردد فيه.
وذلك مع الحكمة ومع القوة غاية الكمال في الحكم والسلطانفي عالم الإنسان.
ومع هذا كله فقد تعرض داود للفتنة والابتلاء؛
وكانت عين الله عليه لترعاه وتقود خطاه،
وكانت يد الله معه تكشف له ضعفه وخطأه،
وتوقيه خطر الطريق وتعلمه كيف يتوقاه
في ظلال القرآن
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home