تأملات في آيات قليلة
“ غُلِبَتِ الرُّومُ
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ
وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ
فِي بِضْعِ سِنِين
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
بِنَصْرِ اللَّه
يَنصُرُ مَن يَشَاء
وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ”
( وارجو ان تصبروا على طولها فلعل
فيها معاني تفتح آفاقاً جديدة )
“ غُلِبَتِ الرُّومُ
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ”
هذه الآيات مكية
ويعطينا ذلك زمان المعركة
حيث حدثت حوالي
السنة الخامسة من البعثة
( قبل الهجرة بحوالي
سبع سنوات ونصف )
والمسلمون مستضعفون
وليس لهم دولة
ومع ذلك تتحدث الآيات
عن الصراع الدولي
بين أكبر قوتين في العالم آنذاك
الفرس والروم
وفيه معنى أن المسلم يجب أن يكون لديه وعي سياسي بما يجري حوله
وبالذات الأحداث الاستراتيجية المؤثرة على المسلمين
والآية تعطينا كذلك مكان المعركة
حيث حدثت في مكان
قريب من جزيرة العرب
( أدنى الأرض أي أقربها )
وهي قد حدثت قرب البحر الميت
القريب جداً من شمال الجزيرة
ومن معاني “ أدنى الأرض ”
أي أكثر نقطة انخفاضا في العالم ( والبحر الميت هو أخفض مكان في اليابسة كما هو ثابت علمياً اليوم )
فتأملوا الدقة في تحديد المكان
والآية تعطينا نتيجة المعركة الكبرى
حيث انتصر الفرس على الروم انتصاراً ساحقاً
وطردوهم من دمشق ( عاصمتهم السياسية الثانية بعد القسطنطينية)
والتي كانوا منها يحكمون الشام الكبرى ( سوريا وفلسطين والأردن ولبنان وما حولها )
كما طردوهم من عاصمتهم الدينية القدس
واستمر الفرس في الانتصارات بعد سيطرتهم على كل الشام الكبرى
فتوجهو نحو مصر
واكتسحوها
وطردوا الرّوم من الاسكندرية
عاصمتهم السياسية الثالثة
والتي كانوا من خلالها يحكمون كل شمال أفريقيا
وتغير التاريخ والجغرافيا بهذه الهزائم للروم
حتى بدأت التوقعات بنية الفرس اكتساح القسطنطينية نفسها
وإنهاء الامبراطورية البيزنطية نفسها
وفي ظل هذه الأحداث الكبرى
يأتي القرآن الكريم بمفاجئة كبرى للجميع :
“ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ
فِي بِضْعِ سِنِينَ ”
سينتصر الروم على الفرس في أقل من تسع سنين ( البضع بين ٣ و ٩ )
ضحك كفار قريش من هذه النبؤة
إذ كيف يمكن أن تنقلب الموازين الدولية بهذه الدرجة
وفي أقل من تسع سنين
وخاصة مع الهزائم المدوية الكبرى للروم
وهنا راهنهم سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ( قبل تحريم القمار )
ووافق أبي بن خلف وغيره
واتفقوا على عدد من الإبل
لمن تتحقق نبؤته
والكفار في منتهى الاطمئنان
حيث هناك اجماع من المحللين
من الأذكياء وأصحاب العقول
باستحالة انتصار الروم
في هذه الفترة الوجيزة
ۗ
“ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ ”
لله الأمر من قبل أن ينتصر الفرس ومن بعد هزيمة الروم ومن بعد انتصار الروم
“ لله الأمر ”
وهذه هي الرسالة الرئيسية للمؤمنين آنذاك وفي كل وقت واليوم كذلك
لله الأمر
ليس لأمريكا ولا لروسيا
ولا الاتحاد الأوربي
لله الأمر
وليس للطغاة ومن يساندهم
لله الأمر
وليس لبشار ولا ايران وحلفائهم
ولذلك لا ينبغي الاتكال على غيره سبحانه
ولا ينبغي اليأس
لأن الصراع صار بين “ الكبار ”
ونحن صغار مستضعفون بينهم
فلله الأمر وهو قادر أن يقلب كل الموازين من حيث لا يحتسب أحد
ثم يأتي القرآن بمفاجئة أخرى
ومن العيار الثقيل كما يقال
“وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
بِنَصْرِ اللَّهِ ”
وقد أخطأ معظم المفسرين حين فسروها (بفرح المؤمنين بنصر الله ) أي أنهم سيفرحون ( بانتصار الروم لأنهم أهل كتاب وهم أقرب إلينا )
كلا ثم كلا
القرآن يتحدث عن المؤمنين
وفرحهم هم بنصر الله
وهو يحدد لهم موعد الفرح ( يومئذ )
أي أنكم في اليوم الذي سينتصر فيه الروم بشكل غير متوقع على الفرس
ستفرحون أنتم أيها المؤمنون
في ذلك اليوم بنصر الله ﷻ
لكم أنتم
وليس للروم
وبالتتبع الدقيق للأحداث التاريخية ( حتى في المصادر الغربية )
فعندما انتصر الروم على الفرس
بعد ٩ سنين فقط
( واستعادوا كل المناطق التي خسروها )
بل وصلوا إلى العراق وبدأوا يهددون عاصمة الفرس المدائن
تفاوض الفرس معهم على الاستسلام مقابل التوقف عند ما وصلوا اليه
وفي نفس ذلك اليوم بالضبط والذي تم فيه توقيع وثيقة انتصار الروم وتغلبهم على الفرس
في نفس اليوم بالضبط ( يومئذٍ )
ليس قبله بيوم أو بعده بيوم
في ذلك اليوم تماماً :
حدثت معركة بدر !!!!
بعد الهجرة بحوالي سنة ونصف
فالقرآن يتحدث عن انتصار غير متوقع للمؤمنين هو أعظم في موازين التاريخ من انتصار الروم على الفرس
وكلاهما حدث في نفس اليوم بالضبط ( يومئذٍ )
والدرس النهائي للمؤمنين
آنذاك وفي كل زمان واليوم كذلك :
“يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ”
ينصر من يشاء
حتى لو خالف ذلك كل التوقعات
كما نصر الروم انتصاراً غير متوقع
وكما نصركم في بدر
بانتصار غير متوقع
لا تفقدوا الأمل فهو
( ينصر من يشاء )
وهو سبحانه
قادر على أن ينصركم متى شاء
حتى لو لم يكن هناك أية توقعات بذلك
لا تيأسوا فهو( العزيز )
الأقوى من كل القوى العالمية
وهو ( الرحيم ) بكم
ويعرف ما مسّكم من ألم وضعف وأذى
كل هذه المعاني والتفاصيل العجيبة
في كلمات القرآن القليلة المعجزة
فيا له من كتاب !!!
ويالها من دروس !!!!
طارق السويدان
1 Comments:
حفظك الله
إرسال تعليق
<< Home